صوّت البرلمان التونسي لصالح حكومة يوسف الشاهد أو لحكومة الوحدة الوطنية كما يُسميها بعض السياسيين المشاركين فيها؛ حيث نالت هذه الحكومة ثقة 167 نائبا من جملة 217.
حكومة يوسف الشاهد هي الحكومة السابعة منذ 14 جانفي/يناير 2011، وهي الحكومة الثالثة منذ انتخابات أكتوبر 2014 والتي فاز فيها حزب حركة نداء تونس.
تأتي هذه الحكومة في ظرفية اقتصادية ومالية صعبة وهو ما دفع بالشاهد إلى مصارحة نواب الشعب ببعض المؤشرات الإقتصادية السلبية كما صرّح بعزمه الدخول في سياسية تقشف بداية من سنة 2017 إذا ما استمرت الأزمة الحالية الخانقة.
مظاهر الأزمة الإقتصادية والمالية
حكومة الشاهد ستجد نفسها أمام أرقام ومؤشرات اقتصادية مُفزعة؛ فنسبة النمو لم تتجاوز 1% خلال الربع الأول من هذه السنة، فيما قلص البنك المركزي التونسي توقعات النمو من 2.5% إلى 1.3% لهذا العام، وهو ما يُفسر ارتفاع نسبة البطالة التي بلغت 15.6% خلال النصف الأول من السنة.
ينضاف إلى ذلك العجز في الميزانية العمومية الذي بلغ 2.9 مليار دينار وهو رقم لم تصله تونس خلال العشرية الأخيرة.
لا تنحصر أزمة الاقتصاد التونسي بالجانب المالي فقط، بل تشمل القطاعات الحيوية كالصناعة والسياحة والفلاحة؛ فقد تراجع انتاج الفسفاط الذي يساهم بـ9% من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 60% منذ سنة 2010، وفي الثلاثين من شهر أغسطس توقف انتاج الفسفاط بكل مدن الحوض المنجمي بسبب احتجاجات عدد من المعطلين عن العمل الذين يطالبون بحقهم في العمل وبحق المدينة في التمنية، وهو ما سيعمق أزمة هذا القطاع.
أما القطاع السياحي الذي يساهم بـ7% من الناتج المحلي الإجمالي فقد شهد تراجع عائداته بـ 44.6% كما تراجع عدد الليالي المقضاة بـ 40.3% في الفترة الممتدة بين شهري جانفي/يناير وماي/مايو من السنة الحالية مقارنة بنفس الفترة من سنة 2015.
القطاع الفلاحي هو الآخر يعاني من أزمة خانقة، حيث سجل الميزان التجاري الغذائي عجزا ماليا بلغ 402.4 مليون دينار خلال السبعة أشهر الأولى من سنة 2016، وهو ما يمثل نسبة 5.8% من إجمالي عجز الميزان التجاري مقابل فائض 372.6 مليون دينار خلال نفس الفترة من 2015، حسب ما كشفت عنه وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري.
كما يشهد القطاع أزمة أخرى تتمثل في الجفاف، حيث يعيش التونسي اليوم تحت خط الفقر المائي بمعدل 460 متر مكعب مقابل 1000 متر مكعب في المعدل العالمي، وقد صرح سعد الصديق وزير الفلاحة في حكومة حبيب الصيد لإذاعة محلية أنّ “مخزون المياه الصالحة للشرب المتوفّرة حاليا يكفي إلى حدود شهر كانون أول/ديسمبر القادم فقط في حال لم تتساقط الأمطار”.
زيادة على ذلك فإن كثيرا من السدود الكُبرى بالبلاد تشهد خطر الجفاف بسبب تراجع مستويات المياه، وهو ما دفع وزارة الفلاحة إلى غلق سد نبهانة بعد تراجع مخزون المياه فيه إلى مستويات قياسية.
وأمام هذه الأزمة الإقتصادية الحادة، صرح رئيس الحكومة يوسف الشاهد أمام البرلمان التونسي في جلسة منح الثقة بأنه الحكومة ستضطر إلى تطبيق سياسة التقشف بداية من سنة 2017.
ما هي سياسة التقشف؟
التقشف هو السياسات التي تستهدف تخفيض حجم الإنفاق الحكومي أو رفع الضرائب بهدف خفض عجز الميزانيات العامة للحكومات وتجنب تصاعد الديون الحكومية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وغالبا ما تلجأ الحكومات إلى السياسات التقشفية أثناء الكساد أو التراجع الحاد لمستويات النشاط الاقتصادي.
ومن بين إجراءات سياسة التقشف:
-التخفيف من الخدمات الاجتماعية والصحية العامة التي تقدمها السلطات الرسمية.
-التخفيف من نفقات الوزارات.
-إقفال باب التوظيف في القطاع العام وتسريح الموظفين، تخفيفاً من الأعباء المالية التي تتكبدها الخزينة العامة.
-التفويت في مؤسسات الدولة التي تُعاني موازناتها المالية عجزا حادّاً.
وقد صرح رئيس الحكومة يوسف الشاهد ببعض هذه الإجراءات التي وصفها بـ”المؤلمة” والتي من بينها حسب تصريحه “رفع الضرائب وتسريح ألاف الموظفين وإيقاف الإستثمار سنة 2017″.
كما صرح وزير النقل في حكومة الشاهد، أنيس غديرة بأن وزارته في المراحل الأخيرة لتسريح 1000 موظف.
وهذه الإجراءت في الحقيقة يقف خلفها صندوق النقد الدولي والذي إلى الآن لم يُفرج عن القسط الأول من قرض مالي مخصص لها خلال سنة 2016 ومُقدر بنحو 319.5 مليون دولار رغم كل الوعود التي قدمتها السلطات التونسية للصندوق؛ فحسب الوثيقة المُسربة والمُعنونة بـ”رسالة النوايا” والتي صدرت عن وزير المالية السابق سليم شاكر ومحافظ البنك المركزي التونسي الشاذلي العياري بتاريخ 2 ماي/مايو 2016، موجهة إلى مديرة صندوق الدولي “كريستين لاغارد” والمرفقة بلمحة عن الخطة التنموية (2016-2020) للحصول على قرض من صندوق النقد الدوليتتضمن:
-التخلي عن إستراتيجيا استقرار العملة التونسية والتعهد بتخفيض قيمة الدينار التونسي مقابل اليورو والدولار.
-إنهاء أي دور اقتصادي للدولة وللقطاع العام من خلال خوصصة المنشآت والمؤسسات العمومية على غرار مصنع الفولاذ ببنزرت الذي عُرض للبيع بتاريخ 24 يونيو/جوان الفارط، وبموجب مذكرة “رسالة النوايا” سيتم التفويت أيضا في الشركة التونسية لتكرير النفط، الشركة التونسية للكهرباء والغاز، ديوان الحبوب وشركة الخطوط التونسية.
-تقليص حجم الإدارة وتخفيض مرتبات موظفي الدولة وجرايات التقاعد وإلغاء الدعم على المواد الأساسية (كالخبز والسميد والسكر…).
-التحرير الكلي لكافة الأنشطة والقطاعات الإقتصادية أمام رؤوس الأموال الأجنبية.
غير أن الأخير يطلب المزيد من الإجراءات على غرار اشتراط 500 ألف موظف في القطاع العمومي كحد أقصى، علما وأن عدد موظفي القطاع العام يُناهز 650 ألف، والحفاظ على مستوى الأجور في حدود 13.3% من الناتج الداخلي الخام.
لكن السؤال المطروح اليوم في تونس، هل ستُأتي املاءات صندوق النقد الدولي وتدخله في الإقتصاد التونسي أكلها؟ وهل ستنجح سياسة التقشف التي لوّح بها رئيس الحكومة يوسف؟
كانت تونس قد حصلت على قرض أول من صندوق النقد الدولي سنة 2013 بقيمة 1.7 مليار دولار مقابل حزمة من الإصلاحات الإقتصادية، وكانت تقارير صندوق النقد الدولي وقتها تتوقع أن يستعيد الإقتصاد التونسي تدريجيا عافيته وتوازناته المالية المختلة وأن ترتفع نسبة النمو لتصل الى 5٪ سنة 2015، إلاّ أن الواقع أثبت عكس ذلك وشهدت سنة 2015 أضعف نسبة نمو اقتصادي في تاريخ تونس حيث أنها لم تتجاوز 0.8٪ !!
إنّ قروض صندوق النقد الدولي هي في الحقيقة شراء للقرارات السياسية الداخلية وشكل من أشكال الإستعمار الجديد ولن تحقق للشعب التونسي سوى مزيدا من التفقير والتجويع.
أمّا عن سياسة التقشف التي انتقدتها الدراسات الإقتصادية الحديثة ( للإستفادة يُراجع كتاب “التقشف: تاريخ فكرة خطيرة /Austerity: The History of a Dangerous Idea” للبروفسور الأسكوتلندي مارك بليث، الذي درس تاريخ التقشف منذ نهايات القرن السابع عشر وحتى عام 2012)، فقد أثبتت فشلها في كل من اليونان، البرتغال، أيرلندا وإيطاليا.
إنّ تسريح الموظفين من القطاع العام سيرفع نسبة البطالة، المرتفعة أصلا، وسيقلص حجم الإستهلاك الذي يُعد “محرك كل سوق” وبالتالي ستشهد نسبة النمو الإقتصادي تراجعا يزداد إلى تراجعها الأول، وكذا الحال بالنسبة لتجميد الأجور؛ فإذا ما كنت موظفاً في القطاع العام وكنت تعلم أن مرتبك سوف يُجمد لأربع أو خمس سنوات، فذلك يفترض أن يؤثر على قراراتك بشأن الإنفاق، وبالتالي فقد ساعد التقشف في تباطؤ النمو الإقتصادي، كما أن خفض الدعم والإنفاق الحكومي ستؤدي حتما إلى إشعال الإضطرابات في بلد متقلب سياسيًا، والذي شهد بداية ثورات “الربيع العربي” وأطيح بنظام بن علي سنة 2011.
وفي سياق آخر، فإنّ سياسات التقشف سيترتب عليها إعادة توزيع للدخل بصورة غير متساوية بين السكان، حيث ينصب أثرها بشكل كبير على الفئات محدودة الدخل.
إنّ أزمة الإقتصاد التونسي ليست فقط ظرفية كنتيجة لثورة 17 ديسمبر 2010 وما لحقها من تحركات اجتماعية ومطلبية تتجاوز في مجملها امكانات الدولة المحدودة ونتيجة للوضع الإقليمي والدولي، بل إنّ حقيقة الأمر، هي أن الإقتصاد المحلي يُعاني أزمة هيكلية انحرفت بطبيعته الفلاحية والتصنيعية إلى الخدماتية فضلا عن غياب القرار السياسي السيادي الذي تُؤممُ بموجه كل الثروات الطاقية والمنجمية التي تٌسيطر عليها فعليا الشركات العالمية؛ فيكفي أن نعلم أن الملح التونسي يُباع إلى اليوم بـ1 فرنك للهكتار الواحد بموجب اتفاقية تعود لسنة 1949!!
في نهاية المقال، يمكننا التأكيد على أن الحلول يجب أن تكون تونسية بحتة، وأما ما تقوم به حكومات “موظفي الشركات الكبري” (مهدي جمعة كان موظفا بشركة طوطال الفرنسية) و “موظفي السفارات” (يوسف الشاهد كان موظفا بالسفارة الأمريكية) فهو مزيد من “العمالة” للمنظمات المالية الدولية فقط.
الكاتب : نضال بن محمّد
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء