خلافاً للمنطق الدياليكتيكي، يعمد المنطق الشكلي الى حل مسألة الحقيقة حلاً أولياً، الى ابعد حد، بواسطة صيغة (نعم-لا): انه يعلم الاجابة بكلمة واحدة، وباختصار، وبصورة قاطعة على السؤال: (هل الظاهرة تلك موجودة ام لا؟) والاجابة مثلاُ ب(نعم) على السؤال: هل الشمس موجودة؟ وب(لا) على السؤال: (هل الدائرة المربعة موجودة؟). في المنطق الشكلي، يقف الانسان عند حد اجابات بسيطة جداً، اي عند حد تمييز نهائي بين الحقيقة والخطأ. لهذا السبب، تواجه الحقيقة باعتبارها شيئاً معطى، ساكناً، ثابتاً، نهائياً، ومتعارضاً تعارضاً مطلقاً مع الخطأ.
والواقع، ان الحقائق من هذا النوع (الحقائق الثابتة) لا تصادف الا في حالة ملحوظة عادية، مجردة من الأهمية الكبرى، فيما يتعلق بالمعرفة، في حالة سطحية كما يقول فريدريك انجلز: فالحكم عن وفاة نابليون، الذي يورده انجلز، هو مثال لهذه الحقيقة الأبدية، الثابتة، المطلقة: هذا المثل يأخذ به فلاديمير لينين فيكتب رداً على بوغدانوف: (توفي نابليون في 5 نوار 1821-هذه قضية صحيحة نقر بصحتها ما دمنا غير قادرين على تأكيد عدم دقتها أو غلطها، وما دمنا غير قادرين على دحضها فيما بعد، فنحن نعترف بأبدية هذه الحقيقة... ان المثل الذي اختاره انجلز هو في منتهى البساطة، ويستطيع كل انسان ان يجد بسهولة طائفة كبرى من هذه الحقائق الأبدية والمطلقة، التي لا تسمح للشك فيها الا للمجانين " كما يقول انجلز الذي يقدم ايضاً هذا المثال". لماذا يتحدث انجلز هنا عن السطحيات؟ لأنه يدحض المادية الجامدة والمذهب الغيبي، ويهزأ بهما، يعني بدوهرينغ، العاجز عن تطبيق الدياليكتيك على العلاقات بين الحقيقة النسبية والحقيقة المطلقة... كان دوهرينغ، في صدد أكثر المسائل تعقيداً، ومسائل العلم عامةً، والعلم التاريخي خاصةً، كان يسرف في نثر هذه الكلمات يمنةً ويسرة: الحقيقة النهائية، الأبدية. ولقد تهكم به انجلز لهذا السبب وأجابه: مؤكد أن الحقائق الأبدية موجودة، ولكن ليس من الذكاء استعمال كلمات طنانة لأشياء بسيطة جداً).
يعمل المنطق الشكلي عمله، بالضبط، بوساطة علاقات أولية وأشكال بسيطة، فهو لا يعتبر فكرنا وأشكاله المنطقية الا بمقدار ما يستطاع اعتبارها اشياء ثابتة، لا متحركة، ف(القوانين الأساسية) للفكر، وخصوصاً قانون الهوية (أ هي أ) انما هي معدة لكي ندرك-من تعدد ومن تعقد المعرفة البشرية التي هي في حالة تطور- الأجزاء التي يمكن في حدودها لموضوع الفكر او الفكر المختص بالموضوع، ان يعتبر ساكناً نسبياً، مماثلاً لذاته، يعني ايضاً جامداً. فالأحكام التي هي من نوع: (توفي نابليون في الخامس من نوار 1821)، انما تتصف حقاً بهذا الجمود. بيد أن المنطق الشكلي، مع وجود هذا الطايع الأولي الى ابعد حد، يعمل جوهرياً في فكر الانسان، في الاتصال بين الناس، في التفاهم المتبادل. وفي الحدود-وفي هذه الحدود فقط- التي يجب ان تبقى فيها افكارنا مستقرة مماثلة لذاتها، تكون مراعاة (القوانين الأساسية) للمنطق الزامية لجميع الناس، ومن جملتهم الدياليكتيكيون الماركسيون. ولسوف يؤدي خرق هذه القوانين، ضمن هذه الحدود، الى تقهقر في الفكر، ولسوف تنزع منه دقته، وينزع كل اساس للتأكيدات، الخ... اذن فمراعاة قواعد المنطق الشكلي، في الحدود الملائمة، ليست على الاطلاق ضد الدياليكتيك.
لنضرب لذلك مثلاً: لنفترض ان مدرساً يعالج مسألة معينة، محددة تمام التحديد، يخرج عن موضوعه اثناء القاءه تقريره فينتقل الى موضوع اخر. ولما كان الموضوع قد حدد اطار التقرير، وكان عليه حسب قانون المنطق الشكلي (أ هي أ) ان يبقى ثابتاً، فالمقرر بانتقاله الى موضوع اخر، قد خرق هذا القانون، وجعل فكرته غامضة على السامعين. وأياً كان الدياليكتيك الذي يستند اليه المحاضر في تقريره، فهو لا يستطيع تبرير مثل هذا الاخفاق، ومثل هذا التقصير في دقة التفكير، ولا تبرير في مثل هذه القفزة من موضوع الى اخر، فالدياليكتيك هو الذي يتطلب بالحاح من مقرر يعالج موضوعاً محدداً ان يعرض حقاً هذا الموضوع نفسه. دون الخروج عن الاطار المحدد له. ان خرق قانون الهوية من قبل المحاضر هو ضد الدياليكتيك الماركسي، ذلك لأن هذا الخرق يؤدي الى التشويش، ويضلل السامعين، ولا يسمح ببيان مضمون المسألة الموضوعة.
يبين هذا المثل:
أولاً: ان مراعاة قواعد المنطق الشكلي (حيث تدعو الضرورة الى ذلك)، هو شرط للفكر الدياليكتيكي.
ثانياً: انو قواعد المنطق الشكلي نفسها، وكذلك الأمثلة التي تطبق عليها، هي أولية، الى أبعد حد. فنسبة قواعد المنطق الشكلي الى الفكر هي مثل نسبة جدول الضرب الى الرياضيات او كنسبة قواعد الاملاء الى اللغة.
يجب معرفة، مراعاة قوانين المنطق الشكلي، ويجب ان لا تخرق (حيث يمكن تطبيقها)، ولكن ليس من الجدي المبالغة في أهميتها وحصر حركة تطور الفكركلها تقريباً في حدود مراعاةقوانين المنطق الشكلي.
يتبع...
الفيلسوف السوفييتي، بونيفاتي ميخايلوفيتش كيدروف
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء