سواء كانت المشاهدة في دار سينما واسعة ومظلمة أو عن طريق قرص مُدمج ومُقرصن في غرفة صغيرة وعلى حاسوب أصغر، فإنّ مشاهدة الأفلام تُعد واحدة من أكثر نشاطات الترفيهية شيوعاً في العالم، وبالرغم من مرور أكثر من 100 سنة على أول عرض سينمائي تجاري بما حملته من تغييرات ضخمة في صناعة الأفلام إلا أنّ السينما كانت دائما منتوجاً ثقافياً وفكرياً وأسلوباً ثرياً للتواصل بين البشر، فالفيلم لا يقدم الواقع كما هو بل يعيد إنتاجه بطريقة توائم رؤية صنّاع الفيلم بغض النظر عن توجهات هذه الرؤية وهذا ما يجعلنا نرى ما يريد لنا صنّاع الفيلم أن نراه فقط، ولذلك لا يجب الاكتفاء بمعرفة الحبكة والشخصيات في الفيلم فهناك عدد من العناصر ابتداءً من “البوستر” مروراً بالموسيقى والإضاءة وطريقة التصوير وغيرها من العناصر التي لكلٍ منها معنى خاص ومُركّز.
سنستعرض في المقال مجموعة من الاقتراحات من وجهة نظر شخصية تساعد على فهم الأفلام وتحليلها و”قراءتها” لأي شخص وبالتالي درجة أكبر من المتعة والانسجام والتواصل بين الفيلم وجمهوره وهو جوهر العملية السينمائية في الأساس.
بوستر الفيلم
طالعوا ملصق الفيلم (البوستر) فالإنترنت يحتوي على ملصقات جميع الأفلام تقريباً حتى القديمة، وتولي شركات الإنتاج خاصةً العالمية منها اهتماماً كبيراً بمُلصق الفيلم، ليس لأسباب فنية وثقافية فقط بل لأسباب اجتماعية وقانونية وحقوقية أيضاً، حيث يحتوي المُلصق عادةً على اسم الفيلم مع صور الأبطال وأسمائهم وموعد عرضه، ولكن بجانب هذه المعلومات فإن الألوان والتصميم وطريقة عرض الصور وتوزيع الظلال والخط المُستخدم في الكتابة قد تقول الكثير عن العمل السينمائي، في ملصق فيلم توم هانكس الشهير يبدوForrest Gump مُحاطاً بالبياض الذي قد يدلّ على براءته وشروده أو ربما عدم قدرة أي شيء لصرف نظره عن عيش حياته كما يريد، وقد جلس على مقعد خشبي متكئاً بيديه في جلسة تحاكي جلسة الأطفال، وفي أعلى الملصق مكتوب اسم الفيلم باللون الأزرق واسم البطل باللون الأحمر وتُشكل الألوان الثلاثة ألوان العلم الأمريكي، فهل كان يعني ذلك أنّ Gump هو صوت المواطن الأمريكي العادي؟ أم أنّ قصص المعجزات على غرار قصة Gump لا تحدث إلا في أمريكا؟
المشهد الافتتاحي
انتبهوا للمشهد الافتتاحي لكل فيلم، لأنه هو من يضع المُشاهد في الأرضية الأساسية والمناخ العام للفيلم، ويبذل صانعو الفيلم عادةً جهداً بالغاً في اختيار المشهد الافتتاحي وفي جعله مكثفاً ومشوقاً ومُلخصاً لفكرة الفيلم الأساسية وروحه ومزاجه، فهناك مثلا الفيلم الأسترالي/ الأمريكي The Gift، حيث يبدأ الفيلم باستعراض شقة شديدة الأناقة ولكنها فارغة بشكل موحش مصحوباً بموسيقى بارعة ومتوجسة لداني بينزي وسوندر جورّيانز، وبعد المشاهدة نعرف كيف لخص هذا المشهد القصة ببلاغة واتقان.
طريقة التصوير
يجب الانتباه أيضا إلى طريقة التصوير من الناحية التقنية للكلمة، وإلى اللقطات البعيدة والمتوسطة والقريبة، وكذلك اللقطات بالغة القرب، وهل يتم التصوير من وجهة نظر أحد الأبطال كما في فيلم Malèna حيث الصبي المُغرم بالفاتنة الصقلية التي تحمل نفس الاسم أم أنّ الكاميرا “موضوعية” وتتعامل مع كل الأبطال بنفس القدر كما في فيلم Crash، إنّ المَشاهد التي تركز على ملامح الأبطال وتجاعيد وجوههم وتعبيراتهم تختلف في معناها ودلالاتها عن المشاهد التي تستوعب البطل وما حوله من أشياء وأشخاص وأثاث وألوان، كما أنّ الكاميرا الثابتة تدلّ على الهدوء والاستقرار والوضوح وربما الجمود والرتابة ينما تدلّ الكاميرا المتحركة على السرعة والقلق والهلع والبحث والانتقال من مكان إلى آخر، لاحظ/ي مثلا حركة الكاميرا في الفيلم الألماني Jack حول رحلة الطفل اللاهثة للعودة إلى بيته وأمه.
تكوين المشهد
في الفيلم البريطاني Cracks الذي يروي قصة فتيات إحدى المدارس الداخلية في ثلاثينات القرن الماضي مع معلمتهنّ الآنسة جي (الممثلة إيفا غرين) التي تعلمهنّ كل ما يزعج الإدارة الصارمة والمتدينة، فقد أبدعت المخرجة جوردان سكوت في تصوير المشهد وقد اصطفت الطالبات في خطين متقابلين لتلاوة الصلوات الدينية قُبيل دخول الآنسة جي بزهوٍ في المساحة الفارغة وطرقات حذائها المختلطة مع الموسيقى تُغطي على صوت أناشيدهن في دلالة واضحة على التأثير الكبير الذي تملكه الآنسة جي على الفتيات وتحديها لكل التعاليم حتى الدينية منها! إنّ تكوين المشهد الواحد و كيفية ترتيب الممثلين والإضاءة والموسيقى والأثاث، يجعلنا أكثر اندماجاً وتماساً مع الحالة السينمائية طيلة مدة العرض.
المونتاج
لا يهتم معظم المشاهدين بمونتاج الفيلم، وكيف يتم ربط المشاهد ببعضها البعض لخلق قصة مفهومة والانتقال من مشهد إلى مشهد، أو ربما لا ينتبهون لذلك، إنّ المونتير (أو المُمنتج/عامل المونتاج) هو أحد أبطال الظل في أي فيلم، ويقع عليه عبء ترتيب القصة وتهذيب اللقطات الخام بأكثر السبل تأثيراً وقوةً، ولذلك فإنّ ملاحظة إيقاع الفيلم هل هو سريع أم بطيء، وهل يتم تصوير المقطع بلقطة واحدة طويلة أم عدة لقطات قصيرة متسارعة لها أثر كبير في فهم الفيلم والاستمتاع به ، ولنفهم أكثر قدرة المونتاج وأهميته لنتخيل مشهد إطلاق النار على سلالم الأوديسا الشهير من الفيلم الروسي Battleship Potemkin لسيرغي آيزنشتاين بلقطات طويلة تنتقل فيما بينها ببطء وهدوء باستخدام خاصية التلاشي –Fade In التقنية.
الجو العام للفيلم
تأمّلوا المزاج العام للفيلم والذي يدلنا عليه التمثيل، والموسيقى، والإضاءة، والمؤثرات الصوتية، والملابس، والألوان، ومواقع التصوير، والعناصر المتكررة إن وجدت (نصوص، أغاني، صور، لوحات..الخ) وكل هذه الأمور التي تختلط مع بعضها البعض لتُقدم التوليفة العامة للفيلم وتعكس رؤية صنّاعه، ولاحظوا الألوان المستخدمة في فيلم Apocalypse Now لكوبولا والألوان في فيلم The Grand Budapest Hotel وقارنوا التأثير والجو العام في كلا الفيلمين.
البلد المنتج للفيلم
لطالما كانت السينما جزءاً أساسياً من حياة البشر منذُ اختراعها، ومن الصعب فصلها عمّا يحيطها من تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية مهما ادّعى القائمين عليها عكس ذلك، فتقديم فيلم عن حقوق المثليين في عهد أوباما مثلاً، يختلف في نهجه عن نفس الموضوع في عهد جورج بوش الأب، والمناخ السياسي والاجتماعي للفيلم الأرجنتيني The Secret in Their Eyes الحائز على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، يختلف تماماً عنه في الفيلم الأمريكي Secret in Their Eyes المقتبس عن الفيلم الأصلي وهو ما صنع الفرق الهائل بين الفيلمين لصالح النسخة الأرجنتينية بالطبع، فحاولوا أن تتعرفوا على الأحوال السياسية والاقتصادية والثقافية للبلد/البلدان المنتجة للفيلم، وحاولوا ربطها بمحتوى الفيلم وفكرته ووقت إنتاجه، وعلى سبيل المثال فإنّ معرفة أنّ الفيلم المصري “أريد حلاً” بطولة فاتن حمامة كان سبباً في تعديل قانون الأحوال الشخصية لصالح المرأة لابد أن يُؤثر على موقفك منه.
مناقشة الفيلم
ناقشوا الفيلم مع الآخرين، إنّ الفيلم عبارة عن كمية مهولة من الرموز والأفكار والإشارات التي لا تتوقف منذ أول ثانية وحتى استعراض الأسماء في النهاية، ولا يُمكن لأي شخص أن يعي ويستوعب كل التفاصيل في كل الأفلام التي يشاهدها، كما أنه لا يوجد دائماً إجابات قاطعة في الفنون عامةً وفي السينما بشكل خاص، لذلك فإنّ استعراض الأفلام ومناقشتها وقراءتها مع الآخرين يُتيح للفرد أن يكتشف جوانب أخرى من جماليات الفيلم أو سلبياته، فالعلاقة بين الفيلم والمُشاهد بالغة التعقيد ولكل إنسان دوره المختلف والحرّ في هذه العملية، إن مناقشة الأفلام وتقييمها ليست حكراً على النقاد والمراجعين السينمائيين، ولا يمكن لفئة واحدة أن تحتكر الحق المطلق في فهم الأفلام وتفكيكها والتعاطي معها، فيجب مناقشة موضوع الفيلم وتمثيل الأبطال والموسيقى وأكثر المشاهد تأثيرا أو/و أقلها ويجب المقارنة بين الفيلم وأفلام أخرى تناولت نفس الموضوع أو أفلام أخرى لنفس المخرج، فتبادل الآراء حول الأفلام يجعلها تستمر حتى بعد انتهائها، وفي كل نقاش يكشف لنا جانب آخر من جوانب السينما الآسرة.
الكاتب :هدى جعفر
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء