"الجنيه بيجيب إيه؟" سؤال بالعامية المصرية، يعني ماذا يمكن أن نشتري بالجنيه المصري. تلك العملة التي تتمتع بقوة شرائية عجيبة لم تتأثر كثيراً بانخفاض قيمة صرف الجنيه أمام الدولار الأمريكي في الآونة الأخيرة. ليتخطى الأخير حاجز الثلاثة عشر جنيهاً مصرياً. كيف تعيش إذاً عائلة مصرية متواضعة بأقل من الحد الأدنى في الشهر الواحد؟ وما هي قيمة الجنيه الشرائية الفعلية داخل البلاد، من القاهرة إلى الحدود السودانية؟ إليكم الجنيه، الخط الفاصل الرفيع بين البركة والإفلاس.
نصف دولار يومياً
الحد الأدنى للأجور الذي لم يطبق حتى الآن في مصر حدد بـ1200 جنيه. إذا اعتبرنا أن متوسط سعر الدولار في مصر في الفترة الأخيرة 12 جنيهاً، فمعنى ذلك أن هذا الحد الأدنى لن يتخطى حاجز المئة دولار. لكن إذا نظرنا إلى ماذا تفعل الـ1200 جنيه في مصر، فسنقترب من فهم كيف تتحمل غالبية الشعب المصري العيش بهذا الدخل المنخفض. الفطور اليومي المعتاد لعامة المصريين هو الفول الذي يطبخ ويوضع في رغيف الخبز المدعوم، ويباع بـ5 قروش فقط. علماً أن الجنيه الواحد يحتوي على 100 قرش. أي بجنيه واحد، يستطيع المصري البسيط أن يشتري 20 رغيفاً. عربات الفول تبيع نصف الرغيف الممتلئ بالفول بجنيه واحد فقط، أي نصف سدس الدولار! بالنسبة إلى المياه، فإن غالبية الشعب المصري تشرب من مياه النيل شبه المجانية (ثمن 1000 لتر 10 جنيهات).
أما المواصلات، فالقاهرة الكبرى متصلة بـ3 خطوط مترو أنفاق يستخدمها نحو 750 ألف راكب يومياً في المتوسط. علماً أن تذكرة المترو ثمنها جنيه واحد، يستطيع الفرد بها التنقل بحرية نحو 83 كيلومتراً، وهي المسافة المنفذة من جميع تلك الخطوط حتى الآن. والمواطن القاهري الأكثر رفاهية، يستقل التاكسي، وعداد التاكسي يبدأ من 3 جنيهات ونصف الجنيه، أي أقل من 30 سنتاً.
أما في المحافظات والأقاليم المصرية الأخرى، فالأمر أقل كلفة. وكلما اتجهنا إلى منطقة نائية أكثر، زادت القوة الشرائية للجنيه أكثر فأكثر. في مقابلة مع شيخ من قبيلة الأتمن في حلايب وشلاتين، أقصى جنوب مصر على الحدود مع السودان، أمسك الشيخ عملة من فئة الخمسة جنيهات وقال بعامية المنطقة: "شوف يا أخي الخمسة جنيه دي، دي ممكن لو أنا راجل بسيط أجيب عيش (خبز) بجنيه (20 رغيفاً) من الفرن، وأجيب كيلو طماطم بجنيه، أجيب كيلو بطاطس بجنيه ونص، وكيلو بصل بـ2 جنيه كدة تكفيني، 5 جنيه تكفيني أكل. المواصلات كلنا ساكنين جنب بعض هنا، والمية ببلاش". أي بأقل من نصف دولار يستطيع أحدهم أن يعيش ويشبع في تلك المنطقة النائية.
القاهرة أكثر قهراً
في مقابلة مع أحد عمال النظافة في مدينة القاهرة، استطعنا التعرف إلى الحدود الدنيا للمعيشة في العاصمة المصرية. راتبه الشهري يبلغ 750 جنيهاً في الشهر. الجدول التالي يوضح متوسط إنفاقه على الحاجات الأساسية، علماً أن المدرسة الحكومية التي يتعلم فيها أولاده مجانية، يدفع لها نحو 300 جنيه عند التسجيل لأول مرة. لكن بالطبع تبقى مصاريف الكتب الدراسية والدروس الخصوصية التي لا سبيل للنجاح بدونها.
بمقارنة بسيطة، نجد أن إنفاق رب الأسرة البسيطة في القاهرة يقارب ضعفَيْ راتبه الشهري. لكن عادة يغطي أرباب تلك الأسر العجز عن طريق الإكراميات، التي يحصلون عليها من البيوت التي يخدمونها. وبالطبع لا تشمل هذه الحسبة البسيطة مصاريف التداوي من الأمراض والذهاب للمستشفيات.
وفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية عام 2012، فإن نحو 22% من الشعب المصري يعانون من الفيروس الكبدي الوبائي سي. وبعيداً عن فضيحة مشروع الكفتة الشهير، فإن الدواء "سوفالدي" متوفر في مصر بسعر 520 جنيهاً (بين 40 و58$ بحسب سعر صرف العملة)، في حين يباع هذا الدواء نفسه في بلدان أخرى بـ28 ألف دولار. لكن لا يعني هذا أن مصر جنة للمرضى. تكفي جنيهات قليلة المصري لكي يأكل ويشرب ويتنقل في بلده، ولكنها لا تحميه من غدر المرض، بما فيها مرض الالتهاب الكبدي الوبائي، الذي يكلف رغم رخصه معظم دخل المصري البسيط.
نحو 30% من الإنفاق الحكومي في الموازنة المصرية يكون تحت بند الدعم. نصيب الفرد من دعم المواد البترولية مثلاً، يساوي نحو 1200 جنيه سنوياً، لكن معظم هذا الدعم يستفيد منه أصحاب المداخيل العالية. وبالتالي، لا يشعر به المواطن المصري البسيط. رغم ذلك نستطيع القول إن البركة فعلاً موجودة في الجنيه المصري، لكن ما ينقص المصريون هو ترشيد توجيه الدعم الحكومي ليصل فعلاً إلى مستحقيه.
أسباب انخفاض قيمة صرف الجنيه
الزيادة المهولة في قيمة الدولار في السوق السوداء المصرية، ترجع إلى أن مصر كانت تعتمد بالأساس، لحصولها على النقد الأجنبي، على 5 مصادر أساسية، هي بالترتيب: تحويلات العاملين في الخارج خصوصاً من دول الخليج، عائدات السياحة، عائدات قناة السويس، الصادرات، وأخيراً المنح والمساعدات التي تحصل عليها الحكومة المصرية من الحكومات الصديقة. أحجم المصريون العاملون في الخارج عن تحويل عملاتهم الصعبة إلى الجنيه المصري، اقتناعاً منهم أنه لا سبيل إلى ارتفاع سعر الجنيه مرة أخرى. وبالتالي، كان الإيمان أن الدولار هو الوعاء الأمثل لحفظ قيمة ثرواتهم. تبع ذلك عدة محاولات من البنوك المصرية لحث هؤلاء على ترك الدولار. قام مثلاً البنك الأهلي بطرح شهادة سنوية بعائد 15% سنوياً، ومع ذلك استمر إحجام المصريين عن التخلي عن عملاتهم الصعبة، اقتناعاً منهم أن نسبة التضخم في مصر ستكون أكبر بكثير من الـ15% المطروحة. هذه الشهادة كانت تتطلب أن يتخلى عميل البنك عن الدولار بقيمته الرسمية، التي تقل الآن عن قيمته في السوق السوداء، بنسبة تقارب الـ30%، أي أن طرح المزيد من تلك الشهادات لن يكون حلاً مجدياً.
أما قطاع السياحة فهو الخاسر الأكبر. بعد حادثة الطائرة الروسية التي استهدفها إرهابيون في أكتوبر الماضي، وطائرة مصر للطيران التي سقطت في مياه المتوسط، في مايو 2016، نصحت معظم حكومات الدول الأوروبية رعاياها بتجنب الذهاب إلى مصر. وأصبحت فنادق الغردقة وشرم الشيخ، تستضيف المصري الذي يدفع بالجنيه وليس بالدولار. حتى قناة السويس لم تنج من الحظ العاثر، فالانخفاض الشديد الذي شهده سعر برميل البترول، جعل قناة السويس تفقد من مزاياها الاقتصادية. لجأت بعض السفن إلى استخدام طريق رأس الرجاء الصالح القديم، والالتفاف حول أفريقيا نتيجة انخفاض قيمة إيجار السفن مضافاً إليها قيمة الوقود المستخدم، مقارنة برسوم المرور عبر قناة السويس. تراجع أوضاع هذه القطاعات الثلاثة أثَر بالسلب على الإنتاج المصري المعتمد على المواد الإنتاجية المستوردة بالدولار الذي اصبح نادراً. وبالتالي تأثرت الصادرات المصرية، ولم يبق إلا المنح والمساعدات التي تأخذها مصر من الدول الشقيقة. لكن بعض هذه المساعدات يكون في صورة قروض دولارية منخفضة الفائدة، ولكن يجب سدادها طبعاً بالدولار، وهذا ما يزيد الطين بلة.
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء