فيلم Butterfly’s Tongue … التاريخ يكتبه الفنانون


إسبانيا في القرن العشرين

كان للحرب الأهليّة الاسبانيّة أثراً عظيماً على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الإسباني في النصف الأول من القرن العشرين لما أحدثته من جروح هائلة ظلََّ يعاني منها الإسبان حتى فترات قريبة نسبياً.
لم تنتهِ الحرب بموت الآلاف من الأفراد وتنصيب الجنرال فرانكو حاكماً للبلاد فقط، بل بدأ عهد جديد من حكم الفاشية العسكرية والقبضة الحديدية في جميع المجالات. وأصبح فرانكو وفاشيته المتحكم الأول في البلاد من عام 1939 وحتى وفاته عام 1975، تلك الفترة التي عانى منها الفنانون على وجه الخصوص من تحكم الرقابة في كافة أنواع الفنون.
تأثرت السينما الإسبانية من الحكم الديكتاتوري الذي شجع الأفلام الدعائية للنظام الجديد على حساب الفَنّ وقيمته. فنشر الجنرال فرانكو روايته القصيرة التي تدعى “السلالة” وعمل على تقديمها في فيلم سينمائي من إخراج خوسيه لويس ساينث دى اريديا في عام 1942، وهو فيلم دعائي حربي يمجد من قيمة البطل المنتصر ويدعم الايديولوجية الفاشية.
يعتبر فيلم السلالة مادة توثيقية لإسبانيا بعد الحرب على غرار أفلام ليني ريفنشتال في ألمانيا النازية، ولكن دون التطرق للقيمة المرئية التي اهتمت بها ريفنتشال في إخراجها لأفلام هتلر الدعائية.

التحايل على الرقابة

لم تؤثر قبضة فرانكو على الكثير من فناني عصره، فعمل بعض المخرجين على تقديم الأفلام الرمزية عن الحرب الأهلية هرباً من مقص الرقابة، ورغم نجاح الكثير من تلك الأفلام خارج إسبانيا إلا أنه تم منعها من العرض داخل البلاد.
من أشهر مخرجي تلك الفترة: لويس جارثيا برلانجا وخوان انطونيو بارديم وتأثرهما بالواقعية الايطالية الجديدة وسماتها واهتمامهما بهموم المجتمع الاسباني. فظهرت أفلام مثل “مرحبا مستر مارشال” لبرلانجا وسخريته من خطة مارشال الأمريكية، وفيلم “موت سائق دراجة” لبارديم وتأثره بواقعية دي سيكا في فيلمه “سارقو الدراجات”.
كان للمخرج كارلوس ساورا أثراً كبيراً في الحركة السينمائية الاسبانية حيث عملت رمزيته على تمثيل اسبانيا في مهرجان برلين وفوز ساورا بجائز الدب الفضي كأفضل مخرج عن فيلم The Hunt عام 1966. يعتبر فيلم The Hunt من اوائل أفلام ساورا التي تناول فيها الواقع الاسباني بعد الحرب الأهلية، حيث تدور أحداث الفيلم حول بعض الأصدقاء من المحاربين القدامى للفاشية وتجمعهم بعد سنوات من الحرب لممارسة هواية الصيد، ليكشف من خلالهم عن خبايا المجتمع وتدهور العلاقات الإنسانية بعد الحرب، فعمل ساورا من خلال التحايل على الرقابة الصارمة بإخراج ذلك الفيلم المليء بالرموز والاشارات لسياسة النظام الفاشي، والعنف المتفشي في المجتمع.
بوستر فيلم The Hunt

السينما الاسبانية بعد حكم فرانكو

بعد موت فرانكو عام 1975 وانتقال اسبانيا تدريجياً للعصر الديمقراطي الجديد، اصبح من الضروري تذكرة الأفراد بالماضي القريب خاصةً بعد محاولة فرض النسيان من قبل القوى السياسية والعفو عن جرائم نظام فرانكو. اتجه الكثير من الفنانين إلى التعبير الحر عن الحرب الأهلية وإعادة تأريخها في الذاكرة الجمعية للشعب الاسباني، فعمل المخرجون على تناول الحرب الأهلية كفكرة رئيسية في افلامهم. تخلى كارلوس ساورا عن رمزيته واتجه إلى النقد الصريح وإدانة نظام فرانكو في فيلمه الشهير Ay Carmela! عام 1990 المقتبس عن مسرحية خوسيه سانتشيس سينيسترّا عام 1989. عمل فرناندو ترويبا بكوميديته الساخرة على السخرية من نظام فرانكو في فيلمه The Golden Age والذي حصل من خلاله على الكثير من الجوائز الدولية مثل الاوسكار والبافتا لأفضل فيلم غير ناطق بالانجليزية.

فيلم Butterfly’s Tongue

بوستر فيلم Butterfly's Tongue
يحاول المرء دائماً أن يتظاهر بقوة العلاقات الإنسانية التي تربط بينه وبين الآخرين، فيصبح الآخر صورة متخيلة لما يريده أو ما يحب أن يكون عليه، وعند حدوث أي مستجدات تهز من تلك العلاقة، يتضح زيف العلاقات التي رسمها لنفسه وللآخر منذ البداية، فيكشف لنا المخرج الاسباني خوسيه لويس كويردا عن ذلك الزيف من خلال العلاقات المشوهة لقرية من قرى جاليثيا الاسبانية أثناء الحرب الأهلية في فيلم Butterfly’s Tongue الذي اقتبسه من مجموعة قصصية قصيرة لمانويل ريباس.
تدور فكرة الفيلم حول المعلم الجديد الذي يحاول من تغيير بعض الافكار والمعتقدات البالية التي يتمسك بها أهل قرية من القرى الإسبانية قبيل الحرب الأهلية، فيبدأ بالأطفال حيث يرى فيهم أمل التحرر من قبضة السلطة الدينية والسياسية في المستقبل، لكن لا يديره أحد أي اهتمام سوى عائلة الطفل مونشو (مانويل لوثانو)، ذلك الطفل الصغير الذي يتعجب من عدم ضرب المعلم له كما تصور، او كما اعتاد اطفال القرية في المدرسة، خاصة أخوه اندريس (اليكسيس دى لوس سانتوس).
تقوم أحداث الفيلم بالكادرات الثابتة واللقطات الواسعة والمتوسطة في اغلب الاجزاء بعملية كشف وتعرية لطبيعة العلاقات بين الأفراد، فيبدأ بعرض بعض الصور القديمة لمدينة جاليثيا في تلك الفترة، ومع اخر صورة نكتشف فيما بعد أنها صورة لعائلة مونشو الصغير المعلقة على حائط المنزل، ومع اختلاف حركات الكاميرا بين الحركة الرأسية (بان) والحركة الأفقية نستكشف اجزاء المنزل حيث تعيش العائلة، ونرى مونشو وقلقه من ضرب المعلم له في اول يوم دراسة.

العلاقات الإنسانية في الفيلم

فيلم Butterfly's Tongue - فيرناندو يرنان غوميث ومانويل لوثانو
تبدأ أول علاقة نمطية وهي علاقة المعلم المثالي دون جريجوريو (فرناندو فيرنان جوميث) بالطفل الذي يثيره الفضول لتعلم كل شيء، فيستغل المعلم ذلك الفضول في تعليمه للأدب والطبيعة، ومساعدته في التفكير والتساؤل من أجل فهم الطبيعة البشرية. فيخرج بطلابه لاستكشاف أنواع مختلفة من الكائنات وعلى رأسها “الفراشات”، ويجلب لمونشو صائدا للفراشات من أجل مشاهدة لسانها. كما يساعده فيما بعد بالتعبير عن مشاعره تجاه صديقته الصغيرة، فيحمل لها وردة ويقوم بالنزول للمياه رغم خوفه وعدم استطاعته للسباحة ليعبر عن حبه لها.
نرى ايضاً علاقة مونشو الحميمية بأخيه اندريس عازف الساكسفون الذي يشاركه نفس الغرفة، والتي نلاحظها منذ بداية الفيلم، فينقل إليه ما يتعلمه من المدرس الجديد. ونلاحظ كذلك اهتمام أندريس بالسلالات المختلفة وحبه للصينين من خلال الكتب التي يقرأها، حيث انعزال تلك القرية عن بقية المدن وهو ما يمثل انعزال اسبانيا أثناء الحرب وبعدها عن العالم الخارجي.
أمّا ثنائية الأم والأب فهي العلاقة النمطية بين الأم الريفية المتدينة والأب غير المتدين الثائر الذي يدعم الجمهوريين ضد قوات الفاشية، والذي تتغير مبادئه بنهاية الفيلم عند بداية الحرب الأهلية، وتظاهره بدعم قوات فرانكو من أجل الحفاظ على نفسه وعلى عائلته من الموت.

الشخصيات النمطية

ولا تخلو الشخصيات من الشخصية النمطية لرجل الدين الذي يمثل الكنيسة الكاثوليكية وتدخلها في السياسة وفي حياة الآخرين ومراقبة تصرفاتهم الدينية، وهي صورة للتحالف القوي بين قوات الفاشية وبين الكنيسة أثناء الحرب الأهلية، وهذا من أجل إعطاء مبررات للتصرفات الوحشية التي يصدرها النظام فيما بعد، وثنائية رجل الدين والمثقف المتمثل في دون جريجوريو تكشف لنا عن زيف علاقة الكنيسة بالمواطنين وقدرة السلطة الدينية على التأثير الايديولوجي على الأفراد ودفعهم لمغازلة الفاشية. يعمل القس على تعليم مونشو بعض الآيات باللغة اللاتينية، حتى يشعر بالضيق فيما بعد عند حديث المعلم عن الحرية بنفس اللغة.

التمهيد للحرب الأهلية

فيلم Butterfly's Tongue - فيرناندو يرنان غوميث ومانويل لوثانو
وبمرور الأحداث نستكشف طبيعة تلك العلاقات وزيفها، حتى الفرقة الموسيقية التي تعزف في الاحتفال القروي من أجل إمتاع الناس وإدخال البهجة عليهم، نراهم يقوموا بتمثيل العزف على الآلات الموسيقية المختلفة، حيث يقوموا بتشغيل الموسيقى من مصدر آخر، دلالة على أن البهجة التي يشعر بها الأفراد هي بهجة مصطنعة، حتى تأتي العاصفة والأمطار فتدمر الكرنفال ويعود الافراد لمنازلهم، وهو تمهيد للتغير الذي سيحصل فيما بعد.
يستمع أهل القرية للراديو ويعلمون ببداية الحرب الاهلية، حيث الانقلاب العسكري من قبل قوات الفاشية ضد الجمهوريين، فتتغير طبيعة العلاقات بين الأفراد ويظهر الزيف الحقيقي لها، فبعد أن كانوا يتغنون بأغاني الجمهوريين ضد الفاشية في البداية، نرى الأم تحرق كل ما يخص اثبات أن زوجها يدعم الجمهوريين تجنباً لاعتقاله، وترغمه على التظاهر بالتدين حتى لا يتم التشكك في أنه شيوعي ويقتلونه.

النهاية التراجيدية

(تحذير هذه الفقرة تحتوي على حرق لنهاية الفيلم، يفضل ألّا تقرأ الفقرة التالية إذا لم تكن قد شاهدت الفيلم بعد)
أما مشهد النهاية، فيبدأ بمجيء قوات الحرس المدني من أجل القبض على المحتجزين لانتمائهم إلى الجمهوريين. يخرج كل فرد متجهاً الى سيارة الترحيلات، فيقوم المواطنون “الشرفاء” بسبهم ونعتهم من أجل التظاهر بتأييد قوات الفاشية، حتى يخرج في النهاية المعلم دون جريجوريو المعروف بعلاقته بعائلة مونشو، ومع صدمة العائلة تقوم الأم بإجبار الزوج رامون والابن مونشو بسبّه من أجل التحايل على النظام في مشهد تراجيدي، ينتهي بجري مونشو وراء العربة والقاء الطوب عليها وعلى دون جريجوريو، في لقطات مقربة متتالية لمونشو وللمعلم.
أثناء جري مونشو وشتمه للمعلم يقول أسماء بعض الكائنات التي قد علمها له مثل “تيلونورينكو” وهو الطائر الذي يعطي لحبيبته زهرة الاوركيد تأكيداً لحبه لها، في دلالة على البؤس لتحول تلك الفراشة الصغيرة “مونشو” إلى كائن عدواني نتيجة الظروف المحيطة به، فبعد حبه لمعلمه طوال الأحداث يقوم في النهاية بإلقائه بالطوب دون أن يعرف لماذا يفعل ذلك؟ فلا يدرك بعقله الصغير تلك التصرفات اللاعقلانية التي يقوم بها اهل البلدة وعلى رأسها عائلته!

تريلر فيلم Butterfly’s Tongue

شكرا لتعليقك