من الذي تحدّاه بيتهوفن؟ ومن الذي بصق عليه؟ وهل كانت على سبيل البصق فعلاً؟ ولماذا احتقر بالبصقة من تحدّاه؟ أي: لماذا يتحدّى من يحتقره؟ ولماذا في هذه الثواني بالذات؟ هل عرف أنه سيموت؟ هل كان رافضًا للموت كجلجاميش أو كجلال ذي الجلالة بطل نجيب محفوظ الشيطاني؟ وإذا كان بيتهوفن يضمر كل هذا الرفض والكراهية للقدر والموت والإله، أفلا يتطلب هذا مراجعة أعماله في ضوء جديد هو ضوء نزعة شيطانيّة ما؟
هل كان بيتهوفن شيطانياً (Satanic) بالمعنى الاصطلاحي الدقيق للكلمة؟ وهو الذي مجّد برومثيوس، معبود الشيطانيين؟ وهو أصلاً أحد الموسيقيين المفضّلين عند الشيطانيين؟ وبالعكس كذلك، فهو الموسيقار الذي أفسد تاريخ الموسيقى بحسب هرمان هسه (مقدّمة رواية لعبة الكريات الزجاجيّة) وانحرف بها عن الطريق المسيحي الباخي–الموتسارتي المعتدل المتألم الفدائي.
هل من الصحيح أنه كان شبه محروم من الكنيسة؟ أي: ملعون؟
لماذا إذًا لحّن نشيد شيللر في سيمفونيّته التاسعة، وهو النشيد الذي ينتهي نهاية أشبه بالترانيم الكنسيّة التقليدية (يا إخوتي، فوق قبة السموات المزدانة بالنجوم، من المؤكّد أنّه يوجد أب حبيب، ابحثوا عنه هناك)؟ ولماذا ألّف في المرحلة العمريّة–الفنيّة نفسها القدّاس العظيم Missa Solemnis؟
كان بيتهوفن بالفعل الموسيقار الأول الذي أدخل إلى الموسيقى ثيمة تحدّي القدر إيّاها في السيمفونيّة الخامسة.وهي الثيمة التي جرّبها تشايكوفسكي مثلاً في سيمفونيته الرابعة، وبرامز في سيمفونيّته الأولى، وفرانز ليست في قصيدة السيمفوني رقم 2 (المقدّمات) وغيرهم. وحتى من لم يعالجوا هذا الموضوع صراحةً فقد أوضح التتابع الشعوري في أعمالهم التتابع الشعوري الرباعي ذاته في السيمفونيّة الخامسة لبيتهوفن: القدر يهجم، الإنسان يرثي نفسه، الإنسان يتحدى القدر ويعبث ويسكر، الإنسان ينتصر (السيمفونية الثانية لرحمانينوف مثلاً). لقد صارت هذه الثيمة موضة القرن التاسع عشر، ولم يفلت منها موسيقار واحد تقريبًا خاصة في مراحل الشباب. إذ من المعروف أن الموسيقار الكلاسيكي الرومانسي يتحدّى القدر في شبابه، ثم يقصف القدر عمره في كهولته وشيخوخته.فتشايكوفسكي مثلاً تحدّى القدر مرة واحدة في سيمفونيّته الرابعة التي تنتهي نهاية انتصاريّة، لينال منه القدر انتقامه في سيمفونيّته السادسة التي تنتهي نهاية مأساويّة جنائزيّة، ثم يتوفّى بعدها بأسبوع واحد بالكوليرا.
ثم كانت مأساة بيتهوفن الأساسيّة في حياته: فقدان السمع التدريجي. هنا تتبلور التراجيديا، التي هي شعور درامي يمزج بين الحزن والكبرياء، أو شعور الإنسان أنّه–أو غيره–لا يستحق هذا الألم الواقع عليه، وأنه أفضل من ذلك، أو يستحق أفضل من ذلك.
ولكن لا بد من عودة خاطفة إلى حادثة انقلاب بيتهوفن على نابليون. فقد أعجب به بطلاً يدافع عن الثورة الفرنسيّة بمبادئها المعروفة ضد الاستبداد الديني والسياسي والاقتصادي (بالإشارة إلى الجناح الشيوعي فيها وبخاصة مؤامرة الأكْفاء)، وانقلب عليه حين خانها. وهنا السؤال: هل كان إذّا معجبًا بنابليون كبطل مجرّد قوي، كفتوّة حارة، أم كمدافع عن مبادئ الثورة على التحديد؟
ثم لا بد من إلقاء الضوء على مؤلَّف آخر جوار السيمفونية الثالثة في هذا الصدد: افتتاحية إيغمونت (Egmont) التي عزفت لأول مرة عام 1810. وفي الواقع فإن هذه الافتتاحية الشهيرة، التي تعتبر أحد أهم أعمال بيتهوفن، وربما أجمل افتتاحياته، مقطوعة من عشر مقطوعات وضعت لتمثيل تراجيديا إيغمونت مسرحيّة غوته. لكنها الأشهر، وآخر ما ألفه بيتهوفن من تلك المقطوعات العشر. لكن من هو إيغمونت أولاً؟ إنه أمير إسباني منحدر من هولندا قاوم محاكم التفتيش في زمنه، وأعدِم عام 1568. إنّه ثائر مبكر ضد الاستبداد الديني–السياسي–الإقطاعي، ثائر حسب مبادئ الثورة الفرنسيّة قبل وقوعها بأكثر من مئتي سنة.
والخيط الوحيد الذي يربط إيغمونت بنابليون في مرحلته الأولى التي أعجب بها بيتهوفن هو: الثورة الإنسانيّة ضد السلطة وحتى ضد الدين نفسه إذا اعترضها. لم يكن بيتهوفن غافلاً عما حدث أثناء الثورة الفرنسيّة من أعمال ضد الكنيسة، وهو المثقف الذي عاصرها، والذي كانت مدافع نابليون تدك الأرض فوق رأسه حرفيًا كما سجّل التاريخ، وشعار “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس“. وأديرة الرهبان التي تحولت–بحسب ول ديورانت–إلى بيوت فخمة للدعارة.
وقبل إيغمونت ألّف بيتهوفن كذلك افتتاحية “كائنات برومثيوس“، وباليه “برومثيوس” الثائر الأسطوري ضد آلهة الأولمب لصالح الإنسان. وهنا يتضح الخيط نفسه للمرة الثالثة: الثورة الإنسانيّة.
لكن قبل التسرع إلى حكم، لا مفر من إلقاء نظرة في المقابل على أعمال أخرى هامة من هذه الناحية: مثل السيمفونيّة التاسعة كما تقدم، والقدّاس العظيم، واثنتي عشرة تنويعة على أوراتوريو يهوذا المكابي لهاندل، وربما كذلك السيمفونية السادسة (الباستوراليّة).
من هو الإله في تاسعة بيتهوفن؟بقيت السيمفونيّة التاسعة هي الوحيدة من بنات بيتهوفن التي صيغت على هيكل السيمفونية الخامسة مع فارق هائل في التوزيع الأوركسترالي، وبنية الألحان، ومعالجتها. لكن السيمفونيتين تبدآن بالمأساة، فالحركة الأولى في كليهما مأساويّة خانقة، بينما تتدرج كلاهما حتى تصلا إلى الانتصار النهائي، لكن مع فارق هام: فالانتصار في الحركة الرابعة في كل منها ذو موضوع مختلف. إذ ينسب انتصار الحركة الرابعة في السيمفونية الخامسة لصالح فرد، أو لصالح الإنسان ضد القدر، وهو انتصار بسيط قوي كاسح، لكن انتصار السيمفونية التاسعة انتصار حكيم، إنساني، جمعي، كوني، لا يستبعد الإله.
هل يمكن صياغة لاهوت السيمفونية التاسعة؟
وهل يمكن في المقابل شرح ناسوت أو هيومانيّة أو رينيسانس أو شيطانيّة أو إلحاد السيمفونية الثالثة أو الخامسة؟
الإجابة: نعم.
فالإله في تاسعة بيتهوفن غير مسيطر، أشبه بإله أرسطو المنغلق على ذاته في نظام معزول بلغة الفيزياء، أو في(ترموس) بلغة عشاق القهوة الغربيّة:
الإله الذي لا يعتني بالعالَم، لا يعرف شيئًا محددًا عنه، لا يخلقه. ومع ذلك–عند أرسطو وبيتهوفن–هو هدف العالم والكون. فالإله هدف في تاسعة بيتهوفن يقبع في النصف الثاني من الحركة الرابعة، وقرب الختام، ولو وجد من البداية كفاعل رئيسي أو خالق لتحولت السيمفونية التاسعة إلى أوراتوريو “آلام القديس مَتّى“، وتحول بيتهوفن إلى باخ. الصراع الدامي الرهيب، والصمت المهيمن، والنغمات الشريرة التي تفكّك الصمت والصوت في الحركة الأولى لا يقدر عليها إله في هذا السياق، إنه عالَم بلا إله، لكنه بلا بشر أيضًا، عالَم بلا حسرة ولا أمل، إنه بنية غير عاقلة، تتكون وتنهار ست مرات ثم تتكون من جديد، وهو ما وصفه روبرت شومان عام1838 في مجلة المدارات الجديدة Die neuen Bahnen بأنه سفر تكوين ما. إذ يعيد بيتهوفن كتابة سفر التكوين بلا إله وبلا آدم ولا حواء: مجرّد طبيعة قاسية تغرق في ظلام صامت، ثم تتكون مرة خرى دفعة واحدة–في نهاية الحركة الأولى (الكودا)-بصوت كالرعد كالتحام النجوم.
ثم يأتي الاسكرتسو في الحركة الثانية الذي تحتشد له كل الآلات، والذي يتسابق فيه رعد الطبل الكبير–في قسم التفاعل– مع منمنمات الهوائيّات الخشبيّة والوتريّات الضئيلة السريعة التي تحتشد وتثور، ثم يتماوج في قسم التريو“مارش” تمجيدي، كأنه احتفال انتصاري. إن الإنسان يوجد من دون إله، أو ينتصر على الطبيعة في هذه الحركة. ثم تأتي الحركة الثالثة بألحانها الغنائية، وبصوت الهورن يدعو الأوركسترا إلى الاحتشاد للحركة الرابعة مرتين. فتأتي الحركة الرابعة هادرة، دراميّة، مباغتة، وملحميّة تستعرض ألحان الحركات الثلاث السابقات، ويتكون لحن الجوقة، ويبدأ الإنشاد، وهنا يظهر الإله صراحة لأول مرة.
الإله، إذاً، موجود في السيمفونية التاسعة، لكنّه مجرد (موجود)، ليس واجد الوجود، وليس سره، إنه أحد مفردات ثلاثة تستهدفها السيمفونية التاسعة ونشيد شيللر: الإنسان، الفرْح، الله. إنه هدف لكنه ليس الهدف الأخير. وربما هو أحد ثلاثة تلك الأقانيم التي لهذه السيمفونيّة.
أما السيمفونيتان الثالثة والخامسة فلا وجود فيها للإله. هناك صعود أو انبثاق للإنسان. فالموسيقى دنيويّة بحته، علمانيّة، لا أثر فيها للحن ديني أو موضوع كنسي.
لكن السيمفونية السادسة، التي ليست ببعيدة زمنيًا عن الخامسة، تطرح ملمحًا دينيًا واضحًا، في نشيد الراعي في الحركة الخامسة والأخيرة الذي كان ذا نبرة دينية تعرفها الأذن الأوروبيّة. ولكن الموضوع العام للسادسة هو حياة الريف الفييني الساحرة، بمشاهد الطبيعة المختلفة حين تحنو وحين تقسو، الإنسان نفسه عنصر مهمَّش في هذه السيمفونيّة. تلك السيمفونية التي تلفت النظر فعلاً بسبب قربها من شعر الطبيعة الإغريقي القديم الوثني(إنبادوقليس مثلاً)، حيث تتمجد الطبيعة بلا إله وبلا بشر، وهو خيط واصل بين السادسة والتاسعة في حركتها الأولى.
ألّف بيتهوفن كذلك في مرحلته المبكرة تنويعات على أوراتوريو يهوذا المكابي لهاندل عام 1796. ويهوذا المكابي(Judas Maccabaeus) بطل يهودي قاد تمردًا ضد الدولة السليوقيّة، إحدى الدول التي انقسمت إليها إمبراطوريّة الإسكندر الأكبر، بين عامي 160-167 ق.م، وأحد أهم ابطال اليهود عمومًا. وكانت أعمال بيتهوفن في تلك الفترة (حتى عام 1800) كلاسيكيّة تقليديّة في مبناها والكثير من تفاصيلها، لكن بعض تفاصيلها كانت تبشر بالبيتهوفنيّة بشكل خاطف. ولا غرابة في قيام بيتهوفن بتأليف هذه التنويعات على هذا العمل بالذات، فألحان هاندل فيه كانت جميلة فعلاً، لكن النهاية الدراميّة توحي بشيء من إيغمونت فيما بعد، إنه بطل يواجه الاستبداد العنصري ضد قومه.
يبقى القدّاس العظيم الشهير، وفي الحقيقة فإنه ليس القداس الوحيد له، فقد ألف بيتهوفن قداسًا آخر في مقام دو الكبير مصنف رقم 86 عام 1807، أي في أوج المرحلة البطوليّة، ثم ألف القدّاس العظيم من مقام ري الكبير مصنف رقم123 بين عامي 1819-1823 أي متزامنًا مع السيمفونيّة التاسعة.
ما سر هذين العملين؟ وهل يلقيان الضوء على الشعور الديني المتخفي، أو الارتداد إلى الدين مرة أخرى في آخر مراحل الكهولة بالنسبة للقدّاس العظيم؟
أمر القداس الأول سهل، فقد تم تأليفه بتفويض من الأمير نيكولاوس استرهاتسي (+1833)، وقد لا يعبّر عن توجه أصيل لدى مؤلفه، خاصة وأنه ليس على مستوى عبقريّة الأعمال الدنيويّة في تلك الفترة. أما القدّاس الثاني العظيم(وهو اسم وليس صفة) فيدعو للتساؤل الحقيقي أعلاه. لكن تبقى حقيقة أن بيتهوفن كان يقوم في الفترة المتأخرة من حياته، من السوناتا رقم 27 إلى رقم 32 للبيانو، ومن الرباعي الوتري رقم 11 إلى رقم 16، وهي فترة السيمفونيّة التاسعة والقداس العظيم كذلك، بمراجعة أساليب التأليف في عصر الباروك، وربما عصر النهضة أيضًا، وقد أشار النقاد إلى هذا القدّاس بالذات بوصفه يمثّل استفادة واضحة من هذه الأساليب: فقد قال عنه الفيلسوف الألماني وعالم الموسيقى تيودور أدورنو أنه “يفقد تمامًا أسلوب بيتهوفن المميز في استثمار الوحدات اللحنية البسيطة وإعادة تدويرها بالتنويع عليها“، مما يقربه إلى موسيقى الباروك، أما المؤلف الموسيقي وعالم الموسيقى الإنجليزي دونالد دوفي فيراه قريبًا من موسيقى عصر النهضة وخاصة بالِسْترينا. فربّما حاول بيتهوفن فتح مجال إبداعي جديد بالتأليف في هذا الشكل. وخاصة أنه شكل محدّد مسبقًا، لم يضع فيه بيتهوفن ترانيمه الخاصة كما قد يتبادر إلى المخيلة. إنه مجرد شكل لا مضمون.
من المحزن حقًا لأتباع الديانات أن يكون موسيقار عظيم كبيتهوفن دنيويًا في أعماله إلى هذا الحد. ولكن ربما يكتفي المسيحيون بأعمال باخ وهاندل الدينيّة، ويكتفي السلفيون المسلمون بتحريمهم للموسيقى. لا أظنها مشكلة أحد إلا المستمع المدقق المخلِص لبيتهوفن الذي قد يرى غير ما رأيت، لكنها عندئذٍ لن تكون مشكلتي أيضًا. فبيتهوفن–ببساطة–هو أكبر طارد للعفاريت. وهذا يكفيني.
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء