فيلم "أخوات السرعة".. فلسطينيات سريعات وغاضبات


تخيل أن أحدهم نقل فيلم "سريع وغاضب" لتدور أحداثه في الضفة الغربية مع فريق بأكمله من السائقات الفلسطينيات اللاتي يقفن في وجه الاحتلال الإسرائيلي وقوانينه. يبدو ذلك واعدًا، أليس كذلك؟ هذه هي الثيمة التي تتبادر إلى الذهن سريعًا أثناء مشاهدة الفيلم الوثائقي "أخوات السرعة" للمخرجة اللبنانية عنبر فارس، الذي يتابع حياة فريق لسباقات السرعة مكون من خمس سائقات فلسطينيات في أثناء منافساتهن على حلبات الضفة الغربية، والتي هي سلسلة مؤقتة من المسارات المحددة سلفًا، ودائمًا تحت أعين جنود وشرطة الاحتلال الإسرائيلي. 


ميسون جيوسي 38 سنة من القدس، منى علي 29 سنة من رام الله، مرح زحالقة 23 سنة من جنين وبطلة فلسطين لعام 2012، نور داود 25 سنة من القدس، بيتي سعادة 33 سنة من بيت لحم.. خمس نساء قويات ومستقلات يواجهن التحديات من أجل شغفهن الخاص بالسيارات والسرعة.

بدءًا بصوت محرك طراز قديم لسيارة بي إم دبليو؛ يأخذ الفيلم جمهوره إلى عالمه الخاص من السيارات المندفعة في دورات مرتجلة من قبل "عصابة" متماسكة من الفتيات والسيدات لا يعرفن حدود المستحيل. ومع كاميرات متعددة توفِّر حيوية الصورة، ولقطات لخوذات قيادة تحمل وجهة نظر واضعيها، ومشاهد بطول مسار السباق؛ تلتقط المخرجة الطاقة المتناثرة للأحداث واندفاع السرعات الفائرة وذلك الشعور الارتجالي للعملية بأكملها. في مشهد مبكر من الفيلم تقول إحدى السائقات: "أنا لا أتسابق من أجل الجوائز، بل كي أشعر بالتحرر". الأمر ذاته تؤكد عليه المخرجة في حوار صحفي حين تقول: "أحترمهن لأنهن يردن كسر حدود ما هو مقبول لتفعله النساء، حيث يهيمن الذكور على سباقات قيادة السيارات الرياضية في جميع أنحاء العالم". هذا الإحساس بالضغط ليس بعيدًا عن المستوى السطحي لقراءة الوثائقي، ففي بيئة عربية من غير المألوف أن نرى المرأة تشارك في هذا النوع من الرياضات -هذا أول فريق لسباقات السيارات على مستوى الشرق الأوسط جُلّه من النساء- ورؤية هؤلاء السائقات الفلسطينيات في محاولتهن لإثبات الجدارة في مجال قيادة السيارات؛ يجعل هناك مجالاً للإشارة إلى وقوفهن الشجاع في وجه الضغوط الاجتماعية والسياسية على السواء.

في واحدة من الصور المتكررة في الفيلم نرى الأولاد والرجال يشاهدون السباقات بنوع من الاندهاش الملتبس، إضافة إلى ما يعلمه المُشاهد ضمنيًا عمّا يمكن اعتباره "ترهيبًا جندريًا" بين رئيس اتحاد اللعبة وبين السائقات؛ هذا التركيز الأولي على ما يبدو ارتباكًا مجتمعيًا يجعل الفيلم مطالبًا بمقاربة النظرة الاجتماعية للسائقات بشكل أكثر تفصيلًا. في إحدى المقابلات تعترف ميسون جيوسي، مديرة الفريق، بأنها أحيانًا تحاول أن تبدو أقل قوة من أجل إشباع رغبة مُنافسها الرجل في التفوق! ولكن في أغلب فترات الفيلم تتغلّب مظاهر الإعجاب بالسائقات على مشاعر الازدراء تجاهن. حين تتساءل مذيعة تلفزيونية حول إذا ما كان هناك جدل حول مشاركتهن في السباقات ترد عليها السائقة بيتي سعادة: "على العكس من ذلك، الفلسطينيون فخورون بنا". الأمر ذاته تؤكد عليه المخرجة: "فاجأني مقدار الدعم والتشجيع المقدَّم من المتسابقين الذكور لهن، وأعتقد أنهن قادرات على فعل الكثير رغم الوضع الذي يعشن فيه تحت الاحتلال وظروف الحياة الصعبة جدًا. وهن لا يحصلن على أي أموال مقابل القيام بذلك، وليست هناك جوائز نقدية للتشجيع، إنهن يفعلن ذلك لمجرد الإثارة وحبهن المطلق لهذه الرياضة".
هذا التضامن أثناء المواجهة والتنافس هو ما يبرهن على السحر الخفي للفيلم. فبعد أن عاشوا أجيالًا من القهر، لاجئين في وطنهم، يقوم كثير من الرجال الفلسطينيين كبار السن بإظهار دعمهم للفتيات في السباقات. وفي الأثناء تنقلب الصور النمطية المتوقعة بخصوص جنس السائق، فالسائقات ربما يحببن ضجيج وضراوة السباق ولكنهن في النهاية "إناث رقيقات". ليس واضحًا إذا ما كان هناك ضرورة ثقافية -أو ربما ملاحظات من ممولي الفيلم- لتلك الكليشيهات النمطية عن المرأة العربية، ولكننا نرى بيتي تؤكد: "أنا فتاة، أنا أنثى"، وتعلقُ الكاميرا في لقطة مقربة على أظافرها المطلية بالحمرة، ثم تستطرد: "من المهم بالنسبة لي أن أظهر أنني لست فتاة مسترجلة"، مهم بأي طريقة؟ ولماذا؟ لا يكشف الفيلم عن ذلك.

الفيلم أكثر ثقة في مقاربة الشبح السياسي المألوف في الاحتلال الإسرائيلي، كحقيقة لا تغيب أبدًا عن حلبة السباق من خلال التطفل المستمر والمضايقات المستفزة: جدران من الأسلاك الشائكة تقسِّم المنطقة لتشكّل خلفية قاتمة للعديد من مشاهد السباقات، بينما صور السيارات وهي تنحرف تباعًا عند نقطة محددة في حركة دائرية تثير شعورًا واضحًا بحقيقة القفص الذي أضحت عليه الضفة الغربية بفعل الاحتلال. لاحقًا، حين يسافر عدد من السائقين مع المخرجة ويقترب فريق عمل الفيلم من دوريات جيش الاحتلال؛ تأخذ "بيتي" نصيبها من الغاز المسيل للدموع وتُنقل إلى المستشفى. "هل تعتقدين كونك شقراء وجميلة لن يجعلهم يطلقون النار عليكِ؟" تمازحها نور داود في المستشفى. "هم فقط سيطلقون النار على مؤخرتك". في مشهد تالٍ نرى اثنتين من الفتيات تمرحان على شاطئ الضفة الغربية، الذي يبدو كفردوس لراكبي الأمواج بالمقارنة ببيوتهم المتهالكة، تقول إحداهما للأخرى: "إنهم (الإسرائيليون) يأخذون منا أجمل أشيائنا".هذا التركيز على التهديدات الثقيلة والمعروفة سلفًا يُنقص من تميُّز الفيلم، كذلك الأمر مع الخوض في الحياة اليومية لبطلاته، حتى ليتحول الفيلم إلى "بيان سياسي" يدافع عن "قضية". ليس هناك شك في أن الفيلم يقدم لمحة عن عالم فريد نسبيًا، لكن معظم قصص الفتيات -على الرغم من حميميتها- ليست مدهشة وليست جديدة. ربما هو التمويل مرة أخرى. حكايات الطفولة الروتينية عن الفتاة التي أحبّتْ السيارات منذ الصغر لا تفعل سوى شفط وقت سينمائي كان يمكن فيه الحديث عما يدفعهن حقًا إلى المنافسة، وزيادة على ذلك تقلل البُعد الوثائقي للفيلم الذي ربما كان سيصبح أكثر فاعلية لو تم تقديمه كفيلم تلفزيوني لا تزيد مدته عن 60 دقيقة. وبينما تحمل المتتالية الختامية للفيلم أفضل مشاهده -وكلها تتضمن لقطات للسباقات- يتساءل المرء عما إذا كان الإكثار من هذه المشاهد ودفقات الأدرينالين المصاحبة لها -والتقليل من الحوارات المألوفة- سيجعل الفيلم أكثر حيوية وفاعلية.


شكرا لتعليقك