بهائيو تونس: البحث عن الاعتراف المفقود


"مشيت هذه الخُطى باحثاً جاداً عن الحقيقة، بشوق وذوق. كنت مشتتاً، مشوشاً، لكن سيري لم يخطئ الهدف، لأصل إلى الطمأنينة التي كنت أفتقد". هكذا يُلخص، رضا بن حسين رحلته الصعبة والعسيرة نحو الدين البهائي.
كان شاباً يافعاً شديد التحمس لانتمائه الإسلامي، حريصاً على فرائض الصلاة والصوم وزيارة المسجد يومياً. تكاد قصص المتحولين إلى البهائية في تونس تتشابه. ينتقلون من دين الآباء والأجداد إلى دين جديد، ليجدوا أنفسهم وسط "دائرة الاضطهاد الناعم والبحث عن الاعتراف". القوانين والتشريعات الحكومية لا تعترف بهذه الديانة، والمؤسسات الدينية، الرسمية والشعبية، تعتبرهم "كفاراً ومرتدين". والمجتمع ينظر إليهم شزراً، بينما تعتبرهم بعض النخب "مؤامرةً ماسونية صهيونية يجب محاربتها".

من تاريخ البهائية في تونس

تُعتبر البهائية ديناً جديداً في تونس، قياساً على الإسلام واليهودية المنتشرين في البلاد منذ قرون. لكنها ليست ديانة جديدة ظهرت منذ سنوات. يعود حضورها المبكر إلى بدايات القرن العشرين. حدث ذلك حين ارتحل عام 1921 من مصر، شيخ أزهري يسمى محي الدين الكردي، واستقر في تونس لتبليغ التعاليم البهائية، مكلفاً من عباس أفندي (1844 -1921) المُلقب بعبد البهاء، وهو نجل بهاء الله، مؤسس الدين البهائي.
وفقاً لمكتب الإعلام، التابع للمحفل الروحاني المركزي للبهائيين في تونس، فإنه بعد قدوم الشيخ الكردي إلى تونس: "آمن عدد من التونسيين بالدين البهائي، وساهموا بدورهم في إيصال البهائية إلى أصدقائهم ومعارفهم". إذ تؤكد بيانات تعود للعام 1963، وجود محفل روحاني مركزي في تونس، يشرف على 18 محفلاً روحانياً، منتشرةً في منطقة شمال غرب إفريقيا.
استقلال تونس عام 1956، لم تمنح السلطات الجديدة ترخيصاً قانونياً للنشاط البهائي، لكنها في المقابل لم تغلق المركز البهائي العام في العاصمة، وغضت الطرف عن نشاط البهائيين من دون أن تعترف بهم رسمياً. عام 1969 أصدرت السلطات قانوناً يتعلق بـ"الاجتماعات العامة والمواكب والاستعراضات والتظاهرات والتجمهر". وعليه تم حل المحفل الروحاني الإقليمي لشمال غرب إفريقيا، الذي كان مقره تونس. لكن المحفل الروحاني التونسي أعاد تشكيل نفسه من خلال انتخابات عام 1972.

كيف أصبحوا بهائيين؟

بعد عقد ونيف من تحوله للبهائية، يعود محمد بن موسى، إلى سرد خطواته الأولى في هذا الطريق الجديد: "ولدت في عائلة مسلمة، وكنت مهتماً بالدين منذ شبابي ملتزماً الشعائر الإسلامية، لكنني وجدت نفسي وسط العديد من التساؤلات الوجودية. لم أجدني مرتاحاً وسط تناقضات جمة تحيط بي، ممزقاً بين تطور العصر وعملي وبين قناعاتي الدينية. خضت لاحقاً درباً وعرة للبحث والدراسة، إلى أن وجدت الطمأنينة والجواب المفقود في تعاليم حضرة بهاء الله. وجدت الراحة والجمال معاً. عثرت على التعاليم المنسجمة مع واقعي، مع تطور العصر".

mohamed-ben-moussaمحمد بن موسى الذي تحول من الإسلام إلى البهائية

ويضيف محمد: "لم أعد أشعر بذلك الاغتراب الذي كنت أعيشه سابقاً. ساعدتني كثيراً دراستي للهندسة المعمارية والفن لأتذوق هذه الجرعة الروحية. آمنت أكثر بنبوءة سيدنا محمد، عليه السلام، حين أصبحت بهائياً وبتعاليمه، وعندها آمنت بأن الحقيقة الدينية نسبية وليست مطلقة لأن الدين يستجيب لتطلعات العصور ونضج الإنسانية، ففي كل عصر أوجاع وفي كل رأس أهواء داء اليوم له دواء وداء الغد له دواء آخر".
زميله في الهندسة والتدريس الجامعي، رضا بن حسين، خاض الدرب نفسه، وقرر في نهايتها التحول من الإسلام إلى البهائية. يقول رضا: "نشأت في وسط تونسي محافظ. عشت مراهقتي في سبعينيّات القرن الماضي، بين التحصيل المدرسي والمطالعة والنشاط الكشفي، والارتياد المنتظم للمساجد، حتى نجحت في البكالوريا، وكانت الحركات الإسلامية في تونس تشهد أيام صعودها وقتذاك. ومع بداية مشواري الجامعي لم يعد هذا الارتياد منتظماً. ثم انقطع كلياً بعد سنوات قليلة. وذلك لأسباب عديدة، أهمها شعوري بالتناقض بين الالتزام الصادق بتعاليم الدين وشرعه، وبين مقتضيات الحياة المعاصرة وحقيقة الزمن الحاضر. لكن تنزيل منظومة الدين الإسلامي على واقع الزمان في الحاضر يظهر تنافراً بينها وبين بعض معطياته وحقائقه".

Rida-in-Tunisرضا بن حسين

ويضيف: "بينما كنت أمشي حاملاً عبء تلك الإشكالات في ذهني، اعترضني الأمر البهائي، ومفاده وجود رسالة إلهية جديدة ودين جديد. فسمحت لي تلك التساؤلات بفتح باب للتأمل والدرس داخل نفسي، لم يكن لينفتح لولا شعوري بذلك التناقض الصارخ الذي بينته. هكذا بدأت رحلتي في دراسة البهائية. كنت بداية مدفوعاً بمجرد فضول معرفي، ثم تحول هذا الفضول إلى اهتمام جدي. وبتفكيك عناصر الأحجية التي مثلها لي هذا الدين، اكتشفت أنه يؤسس لبصيرة جديدة تجعل المسلم لا يعيش فقط بالتوافق مع الزمان الحاضر، لكنها تبني لإمكان "مدينة إسلامية جديدة" تتجاوز في طبيعة نظمها كل النماذج التي عرفتها الإنسانية في الحاضر والماضي معاً".

الاعتراف المفقود

عام 1984 أغلقت السلطات المركز البهائي العام، واستجوبت البهائيين. سبقت ذلك حملة إعلامية تونسية على البهائية وصفتها بـ"الحركة الهدامة وصنيعة الصهيونية". جاءت هذه الحملة في سياق السياسية التي انتهجها رئيس الوزراء التونسي، وقتذاك، محمد مزالي، الذي يعرف بقربه للحركة الإسلامية. وساهمت فيها صحف ومجلات قريبة أو تابعة لحركة الاتجاه الإسلامي (النهضة لاحقاً)، والتي كانت تمثل فرعاً لجماعة الإخوان المسلمين في تونس.
وتعاملت السلطات التونسية مع القائمين على شؤون البهائيين بشكل غير رسمي من خلال المحفل الروحاني المركزي، الذي واصل نشاطه وانتخاباته السنوية بالرغم من غياب رخصة العمل القانوني، وما زال الوضع على ما هو عليه حتى اليوم.
ويقول محمد بن موسى، عضو مكتب الإعلام في المحفل الروحاني البهائي بتونس: "عقب الثورة تقدم بعض البهائيين بطلب تأسيس جمعية مدنية هدفها خدمة البلاد، جوبه بالرفض بحجة أن الجمعية تحمل اسم الجمعية البهائية، وعليه تقدم المؤسسون بدعوة قضائية للمحكمة الإدارية للطعن في قرار رئاسة الحكومة، والقضية ما زالت جارية". ويضيف: "الجمعية ليست هدفاً في حد ذاتها بالنسبة للبهائيين في تونس، لكنها مجرد آلية لتنظيم خدمة المجتمع، ومد جسور التواصل مع الجميع".
يُشار إلى أن هذا الرفض الإداري للجمعية البهائية يتعارض مع ما أقره الدستور التونسي الجديد، الذي يؤكد الفصل السادس منه على أن: "الدّولة راعية للدّين، كافلة لحريّة المعتقد والضّمير وممارسة الشّعائر الدّينيّة، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التّوظيف الحزبي. وتلتزم الدّولة بنشر قيم الاعتدال والتّسامح وبحماية المقدّسات ومنع النّيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التّكفير والتّحريض على الكراهية والعنف وبالتّصدّي لها".

النظام الإداري البهائي والعلاقة مع الدولة

وعن علاقتهم بالدولة يوضح بن موسى: "في البهائية لا يوجد رجال دين، لدينا نظام حوكمة ذاتية. عندنا مؤسسات منتخبة سنوياً، فيها رجال ونساء وتمثل البهائيين في البلاد. هذه المؤسسات هي المخولة بالاتصال بالدولة ومؤسساتها، لكن الدولة ترفض الاعتراف بنا، بالرغم من وجود وزارة للشؤون الدينية. والتي من المفترض أن تضع في مجال اهتمامها كل الأديان. ويطرح البهائيون على أنفسهم المشاركة في الحوارات المتعلقة بالشأن العام للاستفادة من التجارب الوطنية والتعلم منها وإبداء الرأي في بعض القضايا. فمثلاً شاركنا في مداولات كتابة الدستور الجديد، وقدمنا للجان المجلس الوطني التأسيسي رؤيتنا بكل تواضع ومحبة. هذا شكل علاقتنا بالدولة، والذي فيه الكثير من التناقض، لا وجود لاعتراف رسمي ولا وجود لإقصاء تام، لكننا نحن دائماً من يبادر بمد حبل الوصل".
رفعت السلطات الحظر عن التمثيل الإداري البهائي، خلال العشرية الأولى من القرن الـ21، ما سمح للبهائيين بتشكيل هيئاتهم الإدارية على الصعيد المحلي. يشير البهائي رضا بن حسين إلى أنه يوجد في منظومة الدين البهائي نظام إداري تشرف عليه مؤسسات منتخبة، تقوم على خدمة الأحباء (اصطلاح بهائي لتسمية البهائيين)، من خلال الإشراف على شؤونهم الدينية والاجتماعية. وهو يتألف من تمثيليات محلية ووطنية وعالمية. وهي هيئات، تضم كل منها تسعة أعضاء عن طريق الانتخاب الحر والسري، من دون أن يقوم الأفراد بالترشح إلى عضويّتها، فالاقتراع يتمّ على الأشخاص الذين يأنس فيهم الأحبّاء الثقة والكفاءة".
ويضيف بن حسين: "هذا النظام الإداري ليس اختراعاً بشرياً، بل هو تشريع ديني من ضمن التشريعات التي جاءت بها الديانة البهائية. كما أن المحافل الروحانية في كل بلد مدعوة كل خمس سنوات لانتخاب المحفل الروحاني العالمي، الذي نسيمه بيت العدل الأعظم. وهي بدورها، أي المحافل الوطنية، يتم انتخابها على المستوى المحلي، وتمثل المناطق داخل كل دولة. فنضمن مشاركة كل القاعدة البهائية في اختيار ممثليها القائمين على تسيير شأنهم الديني والاجتماعي. وهو أمر يتوافق مع رؤية البهائيين التي تقول إن الفرد يكتسب من القدرات ما يسمح له بالمشاركة في إدارة الشأن العام، بعد أن كانت حكراً على أهل الحل والعقد في الحضارات القديمة".
ووفقاً لمكتب الإعلام بالمحفل الروحاني، لا يوجد أي إحصائية رسمية لعدد البهائيين في تونس.

التعايش المنقوص

قبل سقوط نظام بن علي، لم يكن الحديث عن الأقليات الدينية والعرقية في البلاد يتجاوز المجالس الضيقة. فلم يكن مسموحاً بذلك في الصحافة ووسائل الإعلام إلا نادراً. وهذا ما جعل قطاعات واسعة من المجتمع تعتقد أنه لا وجود لأي تنوع في البلاد. بعد سقوط النظام، شهدت البلد نقاشات واسعة حول قضايا التنوع، رافقها بروز نزعات العنصرية والجهوية والعداء للآخر المختلف دينياً وعرقياً.
عن مدى قبول المجتمع التونسي للبهائيين، يوضح بن موسى: "ليس ضرورياً أن نُزين الصورة ونقول إن الوضع مثالي وخال من التمييز. فما زال مجتمعنا يختزن الكثير من مشاعر التفوق الديني والعرقي، وعلينا أن نبذل جهداً أكبر لتكريس التعايش، في ظل الهويات المتناحرة كما يسميها أمين معلوف. علينا إيجاد نقطة مشتركة لنا جميعاً كمسلمين وبهائيين، وعرب وأمازيغ، وسنة وشيعة، من أجل هذه البلاد".
ويتابع: "علينا أن نتعلم أن وجود الآخر ليس تهديداً لنا بقدر ما هو إثراء لتجربتنا ولوجودنا الإنساني. فكل الحقائق العلمية والدينية والتجارب نسبية وليست مطلقة، هذا ما يعلمنا إياه ديننا البهائي، وليس من مصلحة الجنس البشري أن تدخل هذه الحقائق والتجارب المختلفة حيز الصراع بل يجب أن تكون في حيز التعاون والتمازج من أجل وحدة هذا الجنس البشري".
وتعتبر غالبية الجماعات الدينية الإسلامية في تونس، البهائية، ديناً وضعياً، بينما يُصر البهائيون على اعتبار عقائدهم سماوية المصدر. كما أصدرت دائرة الإفتاء التونسية عام 2008 فتوى تحرم زواج المرأة المسلمة من الرجل البهائي، وتبطل عقد زواج المتحول عن الإسلام للبهائية.

ما معنى أن تكون بهائياً تونسياً؟

"كنت قبل إيماني بالبهائية أطرح على نفسي سؤالاً ملحاً: ما هو المرض الذي أصاب المسلمين حتى أصبحنا على هذا الحال من العجز على الفعل الحضاري؟ وما الذي يمنعنا من النهوض الفعلي الذي ننشده في هذا العصر، والذي يعمل من أجله المصلحون في أمّتنا وفي بلدنا بالذات منذ قرنين من الزّمان؟". هكذا يجيب رضا بن حسين عن سؤال كيف يرى نفسه بهائياً وتونسياً، وكيف يساهم في خدمة هذه البلاد كمواطن يحمل تفسيراً آخر للعالم والوجود.
ويضيف: "كان مثلاً "رفع حكم الرقّ" عن الإنسان، و"مساواة الرجال والنساء" في الحقوق والواجبات، وقيام "التعليم العمومي" وإلزاميّته من جملة الأحكام النّازلة في التشريع البهائي. فإذا تتبعنا مسار تاريخ الإنسانيّة في القرنين الأخيرين نلاحظ أن هذه الأحكام كانت محاور أساسية في تطوّره. وإذا نظرنا إلى تاريخ تونس المعاصر نلاحظ أنّها كانت في طليعة الدول التي منعت الرّقّ، وأقامت دستوراً يؤسس للدولة بمفهومها المعاصر. كل ذلك يجعلني كبهائي أشعر بالفخر بانتمائي إلى هذا البلد".
ويقول محمد بن موسى: "أعتقد أنها عملية تشاركية من خلال بناء قنوات للمشورة في كل مكان، لنخطط بعضنا مع بعض، فالعملية روحانية ومادية وفكرية." ويختم: "لا بد لهذا المواطن الذي نريد بناءه أن يكون قادراً على التفكير بنفسه، لا أن يفكر عنه الآخرون، وأن يكون قادراً على التعامل مع شريكه في المواطنة، بغض النظر عن انتمائه الديني والعرقي، وأن يبني معه خطةً للتعامل مع المعضلات اليومية والحياتية التي يواجهها البلد". ويؤكد أن أي نظام مؤسس على الوصاية لا يستطيع أن يستمر بسبب تطور حركة التاريخ والبشر. ولا بد أن تكون عملية البناء المجتمعي جماعية قائمة على جانب فكري وجانب روحاني.

الكاتب : احمد نظيف
شكرا لتعليقك