تاريخ الكوميديا المصرية من كشكش بيه إلى سينما الشباب


مع بداية القرن العشرين، كانت فرقة إسكندر فرح، الفرقة المسرحية العربية الوحيدة المهيمنة على الساحة الفنية في مصر". هكذا استهل كتاب مسيرة المسرح في مصر، لمؤلفه سيد علي اسماعيل.
وأرجع سبب تلك الهيمنة إلى وجود المطرب والملحن الشهير الشيخ سلامة حجازي، الذي أحب الناس ألحانه وغناءه. فالمسرح، لم يكن يعرف حينذاك غير الروايات الغرامية والتلحينية.
وقد أدرك حجازي أنه صاحب الفضل والرواج، فتحجج بالمرض وانفصل عن فرقة إسكندر فرح، وأسس فرقته الخاصة التي حققت نجاحاً باهراً. ثم انضم إليه أولاد عكاشة، وهم 4 أشقاء أحبوا التمثيل والغناء: "عبد الله عكاشة، زكي عكاشة، عبد الحميد عكاشة، وعبد الباقي عكاشة".
وسرعان ما انفصلوا عنه، وكونوا فرقة خاصة بهم. ويحسب لهم أنهم أخرجوا المسرح من طور الغناء فقط، إلى التراجيدي، واعتمدوا على الترجمات بشكل كبير. فقدموا الموسم الأول عام 1909 على مسرح إسكندر فرح، بمسرحية "تسبا" أو شهيدة الوفاء. ثم جاءت منيرة المهدية لتعيد زمن الغناء من جديد، ولكن أين فن الكوميديا من كل هذا؟

كشكش بيه: الرؤيا التي دشنت فناً

كان نجيب الريحاني يكره الكوميديا، ويرى أن الفنان الحقيقي يجب أن يمثل التراجيديا. فكتب في مذكراته: "لم أكن في هذا الوقت أميل للكوميدي، بل كانت كل هوايتي منصبة على الدراما وحدها!". لكن في ليلة حدث أمر غيّر حياته، وحال فن الكوميديا نفسه. وروى: "في فجر هذه الليلة، ولستُ أدري أكنتُ في تلك اللحظة نائماً أم مستيقظاً، وإنما الذي أؤكده أنني رأيت بعيني رأسي خيالاً كالشبح، يرتدي الجبة والقفطان وعلى رأسه عمامة ريفية كبيرة، فقلت لنفسي: ماذا لو جئنا بشخصية كهذه وجعلناها عماد روايتنا".
وهذا ما كان، فولدت شخصية كشكش بيه، عمدة كفر البلاليص الساذج الذي تضحك عليه فتيات الليل دوماً، وتحصل على أموال المحاصيل التي يبيعها. وحققت هذه الشخصية نجاحاً لم يحققه أحد من قبل.
تعرف الريحاني على الشاعر والزجّال بديع خيري. وبدأت مسيرة ثنائي عظيم توّجها انضمام الشيخ سيد درويش في ما بعد، ليخرج المسرح من الطور الهزلي إلى الدور السياسي الهام. فذاعت ألحان الشيخ خصوصاً في ثورة 1919، التي خرجت أساساً من مسرح نجيب الريحاني.

عثمان عبد الباسط: النوبي الأشهر بتاريخ فن الكوميديا

بعد نجاح شخصية كشكش بيه، انتشرت الكشاكش في بر مصر والشام، كل ممثل لا يجد عملاً له، يدعي فوراً أنه كشكش بيه الأصلي وينجرف له الجمهور المتلهف. فسجّل الريحاني الشخصية الأصلية له، لكن أصحاب الكازينوهات راحوا يفتشون عن طريقة لمنافسة هذا الكشكش.
وكان من ضمن الباحثين مدام مارسيل، صاحبة كازينو دي باري. عرفت أن ممثلاً جديداً يدعى علي الكسار، قام بدور خادم نوبي ساذج في إحدى المسرحيات، فتعاقدت معه. وأوكلت إلى مصطفى أمين كتابة مسرحية، وجاءت المسرحية بعنوان "حسن أبو علي سرق المعزة". يقول علي الكسار في مذكراته، إنه استوحى تلك الشخصية من معاشرته للنوبيين في بيوت السادة. لكن بعض الباحثين يعتبرون أن سبب نجاح الكسار وانتصاره على شخصية كشكش بيه، الاستعراضات المبهرة التي قدمها على المسرح مستعيناً بالراقصات الأجنبيات.
التحق بالسينما، وتعاون مع المخرج توجو مزراحي، ليقدما أفلاماً رائجة، مثل نور الدين والبحارة الثلاثة، وعلي بابا والأربعين حرامي، وسلفني 3 جنيه. واستعان باسماعيل ياسين في دور السنيد، وقدمه لأول مرة للسينما.
وقد يعود الفضل في نجاح تلك الأفلام إلى توجو مزراحي، الذي سافر إلى فرنسا وإيطاليا، وتعلم الفن السينمائي على أصوله.

بوقه: من مطرب عاطفي لكوميديان ليس له مثيل..

عام 1930 نزل اسماعيل ياسين من مدينة السويس إلى القاهرة، ليحقق حلمه بالغناء. لكن الغناء حينذاك اقتصر على الوسيمين، فلجأ إلى نوع آخر من الغناء يتسم بخفة الدم هو "المنولوج". بدأ مشواره كمنولوجست في الإذاعة الأهلية، وقدم منولوجه الأول "أصلي مؤدب". ولكن طموحه راح ينمو، فيقول في مذكراته: "بعدين فكرت أشتغل منولوجيست في مسرح استعراضي. لكن مين اللي يشغلني؟ كان فيه مكتب اسمه الأعمال المسرحية بيورد الفنانين والفنانات للمسارح والصالات". وقد ورّده وورّطه هذا المكتب مع فرقة حورية محمد، لكن نجاحه هناك دفع مدام نرجس، مديرة الفرقة وأم حورية، لطرده، بل مطادرته بالمسدس.
ثم انضم لفرقة بديعة، وتعرّف على أبو السعود الإبياري، الذي كان يخطط سراً لتحويل الكباريه إلى مسرح روائي استعراضي. ونجح في مخططه، لكن بديعة حلّت الفرقة وطردته واسماعيل ياسين، لأن المحل بدأ يخسر إيراده المعتاد.
بفضل هذا الطرد توجها إلى السينما، وعملا مع فرقة علي الكسار، وبعد أعوام انطلق الثنائي في سلسلة أفلام احتلا بها الساحة الفنية تماماً. لكن النجاح لم يستمر لعدة عوامل، منها: سخط السلطة على اسماعيل ياسين بعد الثورة، الإفلاس الذي ضرب مسرحه الخاص، ظهور التلفزيون المصري بنجومه الجدد وفرقة ساعة لقلبك، ليبدأ عهد جديد لسينما جديدة.

فؤاد المهندس: من التلميذ إلى الأستاذ الذي سخر من هوليوود

كان فؤاد المهندس ما يزال طالباً في كلية التجارة، حين كانت تقام مسابقة بين فرق المسرح للكليات، تحت عنوان "كأس يوسف وهبي". وكان المهندس رئيساً لتلك الفرقة، ففكر في طريقة تميز فرقته. توجه إلى نجيب الريحاني، ليحاول إقناعه أن يكون مخرجاً لتلك الفرقة، ووافق الريحاني، وأخرج لهم مسرحية "حكاية كل يوم".
يقول المهندس في أحد حواراته: "تعلمت من الريحاني الكثير، وكان درسه الأول لي أن لا أكون مقلداً لأحد، ومن يومها قررت أن تكون لي شخصيتي المستقلة".
عام 1953، قدمت الإذاعة برنامجها الفكاهي ساعة لقلبك، الذي تألق فيه بشخصية محمود، الزوج المغلوب على أمره. ثم كانت البداية مع السينما في فيلم بنت الجيران مع شادية. لكن الانطلاقة الحقيقية كانت مع المخرج نيازي مصطفى، لتبدأ سلسلة من الأفلام التي تسخر من سينما هوليوود، والتي أخذت السينما المصرية إلى طور جديد، يتسم بالفانتازيا والمعارك الكوميدية.

الزعيم: التنوع الذي صنع الأسطورة

حين تجتمع الموهبة مع الوعي تنشأ الأسطورة. عادل إمام بدأ مشواره الفني بدور صبي المحامي في مسرحية أنا وهو وهي. وحين عرضت المسرحية في التلفزيون المصري، لفت إمام نظر الجمهور بشدة، وأصبح مطلوباً بكثرة في الأدوار الثانوية، التي أثبت فيها أنه كوميديان بحق. عام 1973 قام بأول دور بطولة في فيلم "البحث عن فضيحة"، والفيلم من تأليف أبو السعود الإبياري، وإخراج نيازي مصطفى. وضم الفيلم مجموعة ضخمة جداً من عمالقة التمثيل، تمكّن أبو السعود من توظيفهم من خلال تيمة جديدة تماماً على السينما.
بعدها، انطلق النجم في سماء فن الكوميديا، ليقدم العديد من الأفلام الناجحة. لكنه كان أكثر ذكاءً ممن سبقوه، فلم يعتمد على نمط واحد أو شخصية بعينها، بل يمكن القول إن التنوع كان السمة الغالبة عليه. فكان أحياناً يخرج من الكوميدي إلى الرومانسي، كما الحال في فيلم "خلي بالك من عقلك"، أو إلى الإنساني كفيلم "الإنسان يعيش مرة واحدة"، أو العدمي كفيلم "الأفوكاتو"، أو حتى الرعب كفيلم "الأنس والجن".
لكن تبقى محطة شريف عرفة ووحيد حامد الأكثر أهمية، ليس فقط للفنان عادل إمام، ولكن على مستوى الفن الكوميدي عموماً. وتكمن أهمية تلك المرحلة في مزج الفيلم السياسي، ليعاد للكوميديا دورها السابق في توعية المواطن. ومن تلك الأفلام: اللعب مع الكبار، المنسي، طيور الظلام، الإرهاب والكباب. مستعيناً بفنانين كوميديين جدد، لعبوا أدواراً ثانوية، لكنهم لفتوا الأنظار، هم محمد هنيدي وعلاء ولي الدين وأحمد آدم، لتبدأ مدرسة جديدة للكوميديا في السينما المصرية.

سينما الشباب النظيفة التي فتحت باب النجومية للجميع

يعتقد المخرج سعيد حامد، أن سبب ظهور سينما الشباب، يرجع إلى سيطرة عدد قليل جداً من النجوم على الساحة في التسعينات، والتي كانت تقتصر على عادل إمام ونادية الجندي ونبيلة عبيد. وأن الكوميديا كانت مقتصرة على الزعيم، الذي رغم تنوعه، ظل يحتفظ بأدوار لا تناسب عمره، فقد شارف الخمسين، وما زال يلعب أدوار الشاب الخاطب أو طالب الجامعة، والمتفرج لماح بطبعه. فكيف يصدق أن عادل إمام الذي تربى على فنه، لا يزال شاباً مرتبطاً بفتاة أو طالب يدرس في الجامعة؟
يقول سعيد حامد لرصيف22: "عند عرض فيلم اسماعيلية رايح جاي، وهو الفيلم الذي أحدث طفرة في إيرادات السينما المصرية، أحسست أنه الوقت المناسب لصعود نجوم جدد، وكان اختيارنا، أنا ومدحت العدل، لمحمد هنيدي، وفكرنا أن نجعل منه طالب في الجامعة، فالجامعة هي منبع الشباب، ولكن أي جامعة؟ وهنا كان الإفيه، أن يكون صعيدياً في الجامعة الأميريكية". ويضيف: "وهكذا كان، فجاء فيلم صعيدي في الجامعة الأميركية. حقق الفيلم طفرة أخرى، ما جعل شريف عرفة يستعين بفئة أخرى من الشباب، وهم علاء ولي الدين وأحمد حلمي، ومحمد سعد. كما قدمت أنا محمد هنيدي، أحمد السقا، هاني رمزي، منى زكي وفتحي عبد الوهاب".
ويشير حامد إلى أن اختيارهم لاسم السينما النظيفة، كنوع من محاربة الابتذال والجنس غير المبرر في أفلام نادية الجندي ونبيلة عبيد. ويقول: "فعلاً انفتحت الساحة الفنية مذاك، ولم يعد أحد باستطاعته أن يسيطر عليها وحده، فالسينما للجميع ولا احتكار للفنون، والمشاهد هو صاحب القرار في مَن يستمر ومَن يرحل".
شكرا لتعليقك