في الثلاثينيّات من القرن الماضي، كانت منطقة المغرب العربي (المغرب، تونس، الجزائر) وجهة المخرجين الأجانب المفضّلة لتصوير أفلام تروّج للصورة النمطية للشرق حيث الصحارى والجِمال والنخيل. أما السينما المغاربية الفعلية فلم تبدأ إلا بعد الاستقلال.
خلال حقبة الاستعمار الفرنسي، لم يكن للسينما المغاربية وجود حقيقي. كانت غالبية الأعمال السينمائية تقتصر على إنتاج الأفلام القصيرة. ولكن، في أواخر الخمسينيات، انبثقت السينما المغربية والتونسية. وفي بداية الستينيات أبصرت النور السينما الجزائرية. حينذاك، ظهرت أوائل الأفلام الطويلة في هذه البلدان. وقد غيرت الأفلام المنتجة بعد الاستقلال تماماً الصورة المتداولة عن بلاد المغرب العربي، وقدّمت نظرة جديدة إلى ثقافة شعوبها وتاريخهم.
الجزائر: من الاستقلال إلى العشرية السوداء
لم يكن فيلم "وقائع سنين الجمر" للمخرج محمد الأخضر حمينة أوّل فيلم جزائري طويل. لكنه كان أوّل فيلم يحوز جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1975. صوّر الفيلم وقائع النضال الجزائري ضدّ الاستعمار، والمعارك التي خاضها الجزائريون لنيل حريتهم، وركّز على القبائل التي عاش أبناؤها في الصحراء.
امتلأت السينما الجزائرية بالدماء والحرب. لم تتناول فقط واقع الجزائريين التراجيدي منذ بداية الاستعمار حتى الاستقلال. نالت أحداث العشرية السوداء حين انتشر الإرهاب من بداية التسعينيات حتى مستهل الألفية الثالثة، نصيبها من الإنتاج السينمائي الجزائري. هذا هو على سبيل المثال موضوع فيلم "رشيدة" (2002) ليامينا بشير شويخ. هو فيلم مؤثّر جداً، يصور أسوأ أعوام الجزائر، ويروي قصة معلمة شابّة من العاصمة تدرس في إحدى القرى. تقع المعلمة في قبضة جماعة إرهابية تطلب منها وضع قنبلة في مدرستها. تنجح رشيدة في الهروب وتلجأ إلى قرية أخرى بصحبة والدتها وينتهي الفيلم بطريقة درامية وقاسية، لأن العنف كان آنذاك ينتشر في كل مكان ويُنتج حالة رعب جماعية.
ويتناول فيلم "باب الواد سيتي" لمرزاق علواش، وهو فيلم فرانكو جزائري من إنتاج مشترك سويسري ألماني، الحياة في حي العاصمة الشهير"باب الواد". يعرض الفيلم للحياة القاسية لسكان هذا الحيّ بعد أحداث 1988، وبداية العشرية السوداء. بشكل عام، يراعي علواش المستويين الجمالي والفني برغم التراجيديا الحاضرة في كل أفلامه الملأى بالتناقضات وبتيمات العنف والحب والفساد، كما في آخر أفلامه "سطوح" (2013).
على صعيد آخر، برز جيلٌ جديد من المخرجين المهاجرين إلى فرنسا، مثل ندير مقنش المولود في باريس والعائد إليها في سن السادسة عشرة. معظم أفلام مقنش هي باللغة الفرنسية ومصوّرة في فرنسا والمغرب. في فيلمه "ديليس بالوما" يصوّر العاصمة الجزائرية في أبهى حللها، برغم آثار الحرب الواضحة على جدرانها. يروي الفيلم قصة "مدام الدجيريا" التي تدير شبكة دعارة تتخفّى تحت ستار مكتب خدمات. تقوم بدور البطولة الممثلة الجزائرية "بيونة"، وهي المفضلة لدى ندير مقنش. "مدام الدجيريا" كانت تتطلع إلى حياة جديدة ولكنّ الأحداث تجري بعكس أحلامها فتنتهي في السجن.
واهتمت السينما الجزائرية بالثقافة المحلية وبتناول القضايا الاجتماعية. في فيلمه "مسخرة" الفائز بجائزة المهر العربي في الدورة الخامسة لمهرجان دبي السينمائي الدولي والمرشّح للأوسكار سنة 2009، يروي المخرج الياس سالم، بقالب كوميدي، قصة منير مقبال (يقوم بدوره الياس سالم نفسه) الذي يعيش في قرية هادئة في كنف أسرة لا تنعم بالهدوء لأن سكان القرية يعتقدون أن أخته ستظل عانساً بسبب إصابتها باضطراب في النوم يجعلها تنام أغلب الوقت. ولكن شائعة تقدّم ثريا لخطبة أخته ستغير حياة أسرته.
المغرب: سينما القضايا الاجتماعية الحسّاسة
أنشئ أول أستوديو ومختبر سينمائي مغربي سنة 1944 بالتزامن مع إنشاء المركز السينمائي المغربي الذي سيلتحق به في ما بعد الجيلُ الأول للسينما المغربية من خريجي المعاهد السينمائية الفرنسية وممثلي المسرح والتقنيين، وسيخرجون أول أفلامهم "صديقتنا المدرسة" (1956، 50 دقيقة) بإشراف المخرج عربي بنشقرون الذي كتب سيناريو الفيلم وصوّره هو بكاميرا واحدة وبطرق بدائية. برغم كل هذا، يُعدّ هذا العمل جوهرة السينما المغربية ويروي قصة أب مدمن على الكحول وابنه العاق الذي يتحول في ما بعد إلى مجرم ويُعدم.
وفي فترة السبعينات أُنتجت أفلام معظمها تجارية لم تكن موفقة كسابقتها. وبعد رفع الدعم عنها، ظهر الإنتاج السينمائي المستقل وعُرفت أفلامٌ مهمة كـ"وشمة" لحميد بناني، "الأيام الأيام" لأحمد معنوني، "الناعورة"، "دموع الندم" وغيرها. وفي التسعينيات تميّزت الأفلام المغربية بمعالجة مواضيع جديدة نابعة من حياة الليل والشارع والقرى والمجتمع.
في فيلمه "كازا باي نايت"، أو الدار البيضاء في الليل، يروي المخرج مصطفى الدرقاوي قصة كلثوم، الفتاة ذات الخمسة عشر عاماً، التي تُجبر على العمل في ملهى ليلي لتوفير المال اللازم لإجراء عملية جراحية لأحد أفراد أسرتها فتكتشف عالماً بشعاً لا يرحم. أثار الفيلم حين صدوره ضجة كبيرة لتطرقه إلى أشكال الفساد المنتشرة في مدينة الدار البيضاء المخيفة.
وفي فيلمه "كازا نيغرا"، أي الدار السوداء، نسبة إلى مدينة الدار البيضاء، يروي المخرج المنتمي إلى جيل السينما المغربية الجديد، نور الدين الخماري، بجرأة أزعجت الشارع والصحافة، قصة أحلام ومغامرات شابين عاطلين عن العمل، ويصور الجانب الأسود لمدينة الدار البيضاء مستخدماً لغة الشارع كما هي. حصد الفيلم جوائز كثيرة في المغرب وخارجه.
ومن الأفلام المغربية التي أحدثت ضجة في المدة الأخيرة "هم الكلاب" (2013)، وقد اعتبره النقاد الفرنسيون الفيلم الحدث للعام 2013. يروي المخرج هشام العسري فيه قصة انتفاضة الثمانينيات المعروفة بثورة الخبز، وتفاعل المغربيين مع الربيع العربي، وتظاهرات حركة 20 فبراير 2011. هو الفيلم المغربي الوحيد الذي تطرّق إلى هذه الأحداث من خلال شخص "مجهول" اعتُقل أثناء "ثورة الخبز" ثم استعاد حريته أثناء الربيع العربي ليجد نفسه مشاركاً في تظاهرات 20 فبراير. يقابل الـ"مجهول" صحافياَ من التلفزيون فيتتبعه هذا الأخير في رحلة عبر شوارع الدار البيضاء بحثاً عن الماضي.
تونس: سينما التحرر وكسر التابوهات
مرت السينما في تونس بثلاث مراحل هي المقاومة والتحرير، والاستقلال، وما بعد الاستقلال. في 1966 أنتِج أول فيلم تونسي "الفجر"، للمخرج عمار الخليفي، يروي قصة ثلاثة شباب من طبقات مختلفة انضموا إلى خلية ثورية هدفها المقاومة ضد المحتل وتحرير البلاد.
وقد عرفت تونس موجة من الأفلام الجريئة، والمصنفة "للكبار فقط"، وأثارت جدالات واسعة وتضاربت حولها الآراء بين مَن يصفها بالإباحية والابتذال وبين مَن يرى أنها تناولت قضايا المجتمع التونسي بنظرة استشراقية لكونها من إنتاج أوروبي. بعيداً عن هذه الموجة، هناك مخرجون كبار أنتجوا أفلاماً أوصلت السينما التونسية إلى المهرجانات العالمية.
في فيلمه "عصفور السطح"، أو الحلفاوين نسبة إلى حي الحلفاوين في تونس العاصمة حيث ينفصل عالم الذكور عن عالم الإناث، صور المخرج فريد بوغدير أدق التفاصيل لمجتمع يعيش قمعاً سياسياً وازدواجية اجتماعية وسطوة دينية، من خلال عينَيْ الطفل "نورا"، هذا الطفل الذي تستيقظ رغباته الجنسية فيكتشف عالم الرجال محاولاً إثبات نفسه من دون التخلي عن عالم النساء المطرود سلفاً منه.
أما فيلم "صمت القصور" للمخرجة مفيدة التلاتلي فيروي قصة عالية (أدت الدور هند صبري)، المغنية البالغة من العمر خمسة وعشرين عاماً، وفتاة غير شرعية لأم كانت خادمة في قصر "الباي". تعود عالية إلى القصر الذي تربّت فيه لتسترجع مناظر وذكريات من حياتها كطفلة من أب مجهول وأم خادمة وخليلة للباي الذي يمارس الجنس مع أي خادمة يهواها، لتفهم ما فرضته العبودية على أمّها آنذاك، في فترة الستينيات، من قيود. احتل فيلم "صمت القصور" المركز الخامس فى كتاب "سينما الشغف"، الذى أصدره مهرجان دبى السينمائى الدولي، ويضم قائمة بأهم 100 فيلم عربي.
وفي أول أفلامه"ريح السد"، يروي المخرج نوري بوزيد قصة النجار الشاب، يوشك الهاشمي، الذي يحول ماضيه المؤلم بدون تمكنه من خوض تجارب عاطفية جديدة، فيهرب من واقعه في محاولة للبحث في ذلك الماضي، وهذا ما يثير استغراب أسرته التي لا تعرف ما حصل له ولصديقه أثناء طفولتيهما حين اغتصبهما معلّمهما. ينقل الفيلم واقع مجتمع أبوي وذكوري.
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء