ناصر القصبي ومسلسل "سيلفي": الأصولية بشعر أشقر وعيون زرقاء



يطرح الفنان السعودي ناصر القصبي في مسلسله الذائع الصيت "سيلفي"، واحدة من الإشكاليات التاريخية في الثقافة العربية. إذ يقدم نقداً للمجتمع السعودي، ويعيد زعزعة المنظومة القيمية، التي تربت عليها أجيال من السعوديين والعرب، في محاولة لهدم العلاقة بين الأصولية السلفية، والمجتمع المدني الملتزم بتعاليم الدين الوسطي.

ويجتهد القصبي في مواجهة المنظومة الاجتماعية، والإسلامية الأصولية، لوضع المجتمع العربي أمام خيارات واضحة لتسيير وضعه الراهن، متعاملاً مع واقع البلدان العربية، بأنه نتيجة لتاريخ طويل متراكم، ظل متوارياً، وغير مكشوف أمام عين المشاهد اليومي، والعابر.
يتجلى جهد القصبي في هذا السياق في سلسلة من الحلقات التي قدمها. إذ طرح إشكاليات الجماعات الجهادية في المجتمعات العربية، وفتح الباب على صورة الفاجعة المعرفية في توظيف الدين لخدمة السياسة، والقتل، والعنف، والتكفير. واشتغل على الكثير من الأحداث الواقعية في المجتمع الخليجي، تحديداً، لتكون الشاشة الصغيرة واحدة من صور المجتمع الواضحة، لكن المأخوذة من الزاوية المتوارية والمعتمة التي ظلت تاريخياً تحتاج لجهود المثقفين، والتنويرين للكشف عنها.

"سلفي" هل يلعب دور "رفاعة الطهطاوي" على الشاشة الصغيرة

يحسب ذلك كله للقصبي، لكن المتمعن في سلسلة الحلقات المعروضة للمسلسل، يجد أنه وقع في واحد من مآزق الثقافة العربية التاريخية. وتتمثل في التعامل مع الحضارة العربية بوصفها الطرف المقابل لمركزية الحضارة الغربية. فأظهرت بعض الحلقات مقارنة، ومقابلة بين الذهنية الغربية، والذهنية العربية، وبالتالي تفضيل النموذج الغربي على النموذج العربي.
تعيد هذه المعادلة الإشكالية التاريخية التي واجهتها الثقافة العربية منذ عهد الحركات التحررية، والبعثات العربية إلى الغرب في زمن محمد علي باشا، وصولاً إلى اليوم. إذ انقسم المثقفون منذ تلك المرحلة، إلى مثقفين متشبثين بالتراث، ويجدون فيه خلاص الأمة العربية، ومثقفين رافضين للتراث، ومتبنين للمنظومة الفكرية الغربية.
ما يقدمه القصيبي في "سلفي"، هو أحد أشكال الانحياز الخجول للنموذج الغربي، على اعتبار أن الموروث العربي يعاني ما يعانيه من إشكاليات، لم يعد المجتمع قابل للتعايش معها أو تجاوزها ذهنياً. وهذا يأزم الإشكالية ولا يساهم في حلها كما يعتقد البعض. فكلما كان الإعلام، والمثقف المركزي، منحازاً للنموذج الغربي، تزمت الطرف المقابل وصار منحازاً لجذوره التراثية، وأصوليته، المنزوعة عن سياقها.
يظهر هذا الواقع ليس على صعيد المنظومة الذهنية للمجتمعات العربية وحسب، فآثاره ظاهرة في الجماعات الجهادية، والجماعات التكفيرية، وفي مستويات الحريات، ودور المرأة في المجتمع، ومستويات الأمية، وصولاً إلى المشروع الأكبر، والمتمثل في حركة التحرر العربي على مختلف المستويات.
يتأكد ذلك بالعودة إلى الشواهد التاريخية الماثلة خلال المئة عام الماضية، إذ يكفي متابعة شراسة الهجمات التي واجهها رفاعة الطهطاوي، أول المبعوثين لمشروع التنوير العربي في زمن محمد علي باشا. إذ كان التجييش لمواجهة أطروحاته قائماً بوصفه بالزندقة، والكفر، والإلحاد، والتخلي عن الدين، والهوية العربية الإسلامية. ويكفي الوقوف أمام نماذج من الفكر العربي اغتالتها الذهنية الأصولية، أو أهدرت دمها، أمثال "حسين مروة"، و"مهدي عامل"، و"نصر حامد أبو زيد"، وغيرهم من المثقفين والمفكرين.
لذلك لا يمثل مشروع القصبي سوى نافذة صغيرة للإطلالة على إشكاليات الحضارة العربية، وأزمة نهوضها التاريخية. فما يعرض على الشاشة بصورته الفكاهية، واحد من تجليات الصراع القائم بين الانفتاح على الغرب، وتقبل نموذج الدولة المدنية الحديثة بكل محمولها، مقابل الأصولية السلفية القابضة على جذورها المعرفية.

هل ينجح "تجديد الخطاب الديني" في حل أزمة الأصولية الإسلامية العربية؟

واجه هذه الأزمة الكثير من الجهود الفكرية عربياً، فأوجدت منفذاً وسطياً للخروج من هذا المأزق، لكنها توقفت عند المنظومة الدينية، على اعتبار أنها تمثل جذر الإشكال التاريخي والانشقاق الحضاري. فظهر الكثير من دعاة تجديد الخطاب الديني في العالم العربي، منهم المفكر، والكاتب، والمثقف، وصولاً إلى الإعلامي.
لكن الإشكالية لا تزال قائمة، وتكاد تكون جهود كبار الفكر العربي المعاصر غير قادرة على فك الأزمة وتحقيق نتائجها على أرض الواقع. فلم تحقق مشاريع كل من "محمد أركون"، و"محمد عابد الجابري"، و"عبد الله العروي"، و"حسين مروّة"، وغيرهم، في رسم مسار جديد أمام الحضارة العربية.
وسيظل صوت "تجديد الخطاب الديني" منفذاً ضيقاً في مواجهة الأزمة، فالكثير من الإشكاليات لا يستطيع التجديد مواجهتها بصوت عالٍ. خصوصاً أن التعامل مع التجديد لا يعني الوقوف أمام صورة واضحة وثابتة للإسلام، إضافة إلى أن تجديد الدين يبدو سهلاً مقابل تجديد ذهنية بعض المجتمعات العربية، وتغيير قيمها الاجتماعية، التي كثيراً ما تتفوق على الدين في حدة أصوليتها وتزمتها.

من يواجه السلطة السياسية بالحقيقة، وهل يمكن للإعلام أن يكون حراً؟

في ظل الانقسام حول التراث إلى قطبين، أصولي وحداثي، وصولاً إلى التيار الوسيط (تجديد الخطاب الديني)، يولد السؤال الجوهري، ما هي حقيقة الأزمة؟ ومن بيده الحل؟
تبدو الإجابة رغم وضوحها صعبة وشائكة، فهي متمثلة في السلطة، الأزمة الحقيقة هي بين المجتمعات والسلطة. إذ ظلت السلطة في البلدان العربية تسير مصالحها بالاستفادة من أشكال الصراع القائم بين الأطراف كلها. وظلت حريصة على دعم وجودها في مواجهة أحد الأطراف، بدعم من الآخر، فمرة تلجأ إلى الجماعات الأصولية لمواجهة أصولية أخرى، ومرة تلجأ إلى الليبراليية لمواجهة الأصولية، وهكذا يتواصل الصراع على حساب الفرد في المجتمع.
لذلك ليس غريباً أن يكون الإعلام نموذجاً لمجمل التيارات المتنازعة، فلكل واحد من التيارات أدواته الإعلامية. ولكل جهد إعلامي جمهوره. فكما تقود الـMBC الرأي العام العربي اليوم، وترسم وجهات نظره حول الراهن بما يتفق وحاجة المرحلة السياسية الاقتصادية، تصارع جهات إعلامية أخرى لتحقيق غاياتها وتمثيل صورتها في الشارع العربي.
شكرا لتعليقك