فبعد الحرب الأهلية في إسبانيا، وانتصار الجنرال "فرانكو" فيها، لجأ الثوار إلى فرنسا، هاربين من بطشه، لكن حكومة "فيشي"، القريبة من الطاغية الإسباني، اعتقلتهم في معتقل "فارني دارياج"، ثم أرسلتهم إلى معتقل "عين الأسرار"، الواقع في مدينة جلفا في الجزائر، التي كانت مستعمرة فرنسية في ذلك الوقت. وهناك ذاقوا الويلات، وتجرعوا مرارة هزيمتهم في الحرب، وتكسّر أحلامهم في تحرير إسبانيا من الرجعية والديكتاتورية، "إنها الحرب، وفيها لا يستطيع الإنسان المحافظة على إنسانيته، إنه يقتل ليبقى، لينقذ نفسه وجنوده، ليعيش بعدها ويندم على أشياء كثيرة ارتكبها وأخرى لم يرتكبها. هذا ربما ما كانت سييرا تود قوله، أو ربما ذلك ما كنت أؤمن به في تلك الأيام، غير أن الأيام التي تلتها محت كل شيء وجعلتني أقرب إلى لا تصديق ما حدث، وأننا الآن خسرنا كل شيء، الأرض والعائلة، وأصبحنا مطاردين من مكان إلى آخر، وأضحت معتقلات أوروبا تضيق بنا، ثم رمينا دفعة واحدة إلى إفريقيا. (...) لماذا يحدث لنا كل هذا؟ إنها ضريبة لكلمة "لا". لقد خدعونا وقالوا إننا معكم، ثم ها هم يأخذونا إلى إفريقيا".
تصوّر الرواية واقع المعتقلين والعلاقات التي تنشأ بينهم، وحالاتهم النفسية، وأحلامهم وآمالهم، وتركز على الشعور بالمنفى لدى الأفراد، وكيف أن كونك حراً في أي مكان في العالم، دون إمكانية العودة إلى الوطن، لا تعني شيئاً. ويكون "مانويل" الإسباني هو الراوي لكل ما يحدث، ينقل حكايته، ويومياته داخل المعتقل، مبرزاً كيف تتغير طبيعة العلاقات بين الأشخاص الذين يشتركون في المكان الضيق نفسه. والذين يكونون منقطعين عن العالم الخارجي، وصلتهم الوحيدة به هي الرسائل التي ترد إليهم، فمانويل يتلقى رسائل زوجته، ليكتشف بعد زمن طويل أن هذه الرسائل كانت مراقبة، ويتم تعديل ما فيها، و"بابلو" رفيق نضاله، يتلقى رسائل من صديقة فرنسية واقعة في حبه، وحين تنقطع هذه الرسائل يقوم بالهرب من المعتقل، مخلفاً وراءه العديد من الأسئلة التي لا أحد يعرف إجاباتها.
ما هو واضح في الرواية، هو الجهد المبذول في الإحاطة بتلك المرحلة التاريخية، والكتابة عنها بهذه الطريقة، وبخاصة على لسان واحد من المعتقلين، ووصف أدق التفاصيل في ذلك المحيط، لدرجة قد يشعر معها القارئ أن الكاتب كان بينهم، أو كان واحداً منهم. كما أن ميزة الرواية الأخرى، أنها تبدو، كما لو أنها لم تكتب لتروي حكاية، إذ تتلاطم فيها الأفكار والمشاعر والأحداث اليومية العادية والآراء السياسية، ويسير كل هذا جنباً إلى جنب مع فلسفة عميقة، تمتلك رؤيتها للعالم، ويتم التعبير عنها بيسر وخفة شديدين، لدرجة أنك لا تحسّ للحظةٍ بها وهي تتسرب إلى داخلك. "لاحظت أن كورسكي والصبائحي لديهما بعض الجمل المتشابهة، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالموت، ولا أقصد من وجهة النظر الدينية بقدر ما فكرت في علاقة الإنسان بالمكان، وهل هناك تأثيرات تجعل رجلاً قادماً من وارسو يتكلم عن الموت مثل رجل عاش جزءاً كبيراً من حياته في الصحراء؟ وكلما فكرت في هذا الموضوع، مبعداً الدين عن تفكيري، أجدني بطريقة أو بأخرى، أعود إلى الله الذي مثلما قال عنه صديقي: إنه في الصحراء قريب جداً من البشر".
تصف الرواية مدينة "الجلفا" وحياة الناس فيها، إذ يكون "مانويل" واحداً من اثنين سمح لهما بمغادرة المعتقل في أوقات معينة، والتجول في المدينة، بناءً على اتفاق مع مدير المعتقل، فقد كانا يقدمان خدمات له. وأما الثاني فهو "كورسكي" البولوني اليهودي المتديّن. هكذا، تنشأ علاقات بين هذين الاثنين وأشخاص آخرين في الخارج، منهم الرابي يعقوب الذي يجد "كورسكي" فيه المعلم الروحي الذي كان يبحث عنه، ومنهم "السلمي" الساحر الذي "يخزن كل المعارف في رأسه وكل تفاصيل الأمكنة وما تبوح به من منافٍ"، فيسحبك إلى عالمه ويستمر في خلق الحكايات والألغاز إلى نهاية الكون.
يأخذك الكاتب لتتماهى مع شخصياته، وفي لحظة ما، يقرر أن يجعل ما تقرأه سيرة يكتبها "مانويل" بمساعدة من طبيب المعتقل، لكنها ربما تكون سيرة ملوثة بالوهم، هكذا تضيع الحدود بين ما هو واقعي وما هو متخيّل، لتبقى الحقيقة الوحيدة المصرّح بها: المنفى هو الموت.
عبد الوهاب عيساوي كاتب جزائري من مواليد 1985. حازت روايته الأولى "سينما جاكوب" جائزة "علي معاشي" عام 2012، وحازت روايته الثانية "سييرا دي مويرتي - جبل الموت" جائزة آسيا جبار للرواية عام 2015.
الناشر: دار الساقي/ بيروت
عدد الصفحات: 176
الطبعة الأولى: 2016
الكاتب : فايز علام
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء