تبرز دائمًا الأعمال السينمائية في مجال الدراما الإنسانية، وذلك عبر طرقها القاسية التي تنقل من خلالها قصص حياتيّة من الصعب علينا حتى تخيّلها، لكن ماذا سيحدث لهذه الدراما عندما تنتقل إلى حياتنا الواقعيّة؟ عندما تصبح أمام أعيننا يومياً، مسيطرًة، مهيمنًة على تفكيرنا كامل الوقت، ماذا سيحصل لهذه الأعمال السينمائية؟ أو ربما يجب عليّ أن اسأل، ما الذي سيحصل لنا؟
هناك عدّة مفارقات يمكننا تسليط الضوء عليها هنا، فعند بناء فكرة أو قصة دراميّة صُممت خصيصًا لفيلم، قد يلجأ الفيلم لإثارة الدراما عبر ارتباط تاريخي بالفكرة المطروحة، أو حتى تجربة حياتيّة، أو ربما سيناريو خياليّ حدث لغيرنا لكنه لم يحدث معنا شخصيًّا، أو لآخر علينا دوماً القلق حول نسب حصوله. لكن ما لا يستطيع تقديمه فيلم الدراما مهما كان أسلوبه حاد هو مشاهد مؤلمة حقيقية تفوق تخيّل الفكر الإنساني، ولمدّة تجاوزت السنوات الطويلة..
ظهرت في السنوات الأخيرة ضمن إطار أفلام الدراما العالميّة العديد من الأعمال التي طرحت دراما إنسانيّة هائلة، تُسقِطُ أقوى القلوب مُدمرًة أمامها، مثبتًة بذلك حالة الراحة التي نعيشها في قرننا الواحد والعشرين، والمستوى الإنساني الرفيع الذي “يدّعي” العالم الوصول له، ولكن بالنسبة لي، كانت هذه الأعمال السينمائية جيّدة فنيًّا، ولكنها لا تعني لي شيئاً درامياً..
من أبرز هذه الأمثلة هو فيلم 12Years a Slave، فلو شاهدت مشهد نوبيتا نيونغو الشهير قبل 5 سنوات لكنت غرقت بالبكاء لمدّة تجاوزت الـ 5 سنوات حتى، ولكني شاهدته بعد ما شهدته عينيّ من قتل، ودمار، واغتصاب، وقمع، واضطهاد، وعذاب، وفراق، وألم، وقهر، وسجن، واعتقال، وأكثر من ذلك في هذا السياق..
فنظرت بتعجٍّب بتلك الممثلة، ولا كأنها تخبرني شيئاً، ليس بسبب اقتناعي 100% بأن ما أراه مجرّد تمثيل، وإن الأمر لا يحدث الآن، بل في الواقع يجب عليّ أن أشعر بألم أقوى بمئات الأضعاف بسبب ما كنت أشاهده، لأنه حصل في التاريخ يومًا بعد يوم، وتكرر ملايين المرّات، لكن المشكلة بذاتها، هي قدرتي على الاحساس التي اختفت بأكملها عن هذا الوجود، فارقتني ولم تُعد..
لا يعني الأمر إنني لستُ إنسانًا أبدًا، أرى أني فقدت القدرة على الإحساس لأن قسمًا مني أراد الحياة. فإذا أردتَ الحياة وسط ما نعانيه يوميًّا في هذه الدنيا عليك أن تكون مُجرّدًا من الإحساس، عليك أن تضع آلامك وإنسانيتك في قارورة صغيرة ثم ترميها بعيدًا في البحر، عسى أن تعود لك في يوٍم من الأيام عندما يصبح الألم محتملًا، ولكن ليس الآن، وأمامي حياة عليّ أن اتسم بالأنانية لكي أحيى فيها، لكيّ أتمكن من صنع شيء لنفسي فيها..
عدتُ مرًّة جديدة، وكنت سعيدًا جدًا بعد ما سمعته عن فيلم Beasts of No Nation، حيث كنتُ في انتظار فيلم دراميّ خالص، من تصنيفاتي المفضلة، وبعد سماعي عن مداخلة نيتفليكس أولاً في الموضوع، ومن بعدها الآراء الإيجابية التي حامت حول الفيلم جهّزت نفسي لمشاهدة هذه اللوحة السينمائية الرائعة، ولكن، مرًّة أخرى.. لا شيء!
ما الذي حصل تماماً؟ ينقل فيلم Beasts of No Nation أزمة من الصعب حتى التفكير فيها في أفريقيا، وتفاصيلها الدقيقة، بيد أن استخدام الأطفال في النزاعات المسلحة في المقام الأول هو أكثر ما يصيب المشاهد ألمًا، بالنظر إلى أنه واقع حقيقي تعاني منه القارة السمراء بسبب مشاكل عديدة ونزاعات لا تساهم القوى العالميّة إلا في تأجيجها.
كان الفيلم رائعاً، التزم بعرض الكثير من النقاط المؤلمة وأهم من ذلك من وجهة نظر طفل، بنصّ يأخذ المقدمة في عرضه، وإخراج أنيق مع تصميم إنتاج وبيئة ملائمة جدًا لعرض العمل، تظهر النتيجة بطريقة ممتازة. لتترأس بكل تأكيد القصة بحذافيرها وتفاصيلها الدراميّة الموقف في عرض مؤثر وجريئ لمجموعة من أكبر المشاكل على وجه الكرة الأرضية، ليأتِ أخيراً طاقم هائل من الممثلين على رأسهم إدريس إلبا بأداء يليق بجوائز الأوسكار، وكما أحبّ أن أعبّر “اطبقوا الكمال على العمل السينمائي”، ولكن .. لا شيء!
لن يوجد أي إنسان على وجه الأرض لن يتأثر بفيلم Beasts of no Nation، أمر مستحيل لن يمكنك حتى إقناعي بغير ذلك، وتذكّر استخدامي لمصطلح “إنسان” في سياق الحديث، فهل يُجرّدنا إنعدام إحساسنا من إنسانيتنا الحقيقيّة؟ هل ما عانيناه نحن العرب في السنوات الأخيرة بالفعل كان رصاصة الرحمة لمشاعرنا، حتى أصبحنا قادرين على تجاهلها بالكامل؟
لا أعلم كيف أفسّر الأمر، حيث كنت بصدد كتابة تقييمي عن واحد من أقوى الأعمال الدراميّة على الاطلاق، مُركزاً على الأفكار التي يتم زرعها في رؤوس المقاتلين والأطفال خاصًة، وآلية عمل تلك المجموعات المسلحة التي هي بنفسها لا تعرف معنى الإنسانيّة، حتى وجدت نفسي عاجزًا عن الكلام لأني وبكل بساطة شديدة، لم يزعزع ذلك الفيلم ذرّة إحساس في داخلي..
تقريباً، كل ما ظهر في فيلم Beasts of No Nation تجسّد واقعيًا هنا أو هناك في السنوات الأخيرة، قتل؟ اغتصاب؟ حكومات فاسدة لا تعرف معنى الإنسانية؟ استخدام الأطفال كأسلحة، وقتلهم؟ تطرّف؟ قوى سياسية تضطهد أكثر مما تحترم؟ ما الذي فاتنا تحديداً؟ ما الذي تعرضه الأفلام ولا نشاهده باستمرار في حياتنا اليوميّة؟
ربما أصبحت حياتنا فيلمًا دراميًا هائلًا، لا يعرف الكلل أو الملل، يزيد في أحداثه بتسارع إطاراته، ومخرجها شخٌص لا يهتمّ بالمُشاهد، لا يهتمّ بواقع مفاده أن المشاهد لا يستطيع رؤية المزيد من أحداث هذا الفيلم، إنه يغرق في تلك الأحداث التي وصل تأثيرها إلى داخله، تشوّهه، وتقضي عليه من الداخل.. لا يعلم ذلك المخرج أننا لا نستطيع أن نتحمل أكثر من ذلك، أننا بحاجة إلى إنسانيتنا لكي نعيش، نحن مكتوفي الأيدي، حُكم علينا بالمشاهدة الأبديّة لواقٍع تجاوز تفاصيل الجحيم، تتعرض أرواحنا للتعذيب، والجميع يتعامل كأن شيء لم يحصل.. لكن المشكلة وقعت، ودامت، وغياب تأثرنا بالخيال دليل على غيابه في الواقع، وهو بوابة في الحقيقة لمأساة نفسية إنسانية جميعنا بصددها، ولن يكون أبدًا التوقف عن مشاهدة فيلم حياتنا – إذا تمكّنا من ذلك – حلاً دائماً، بل مسكّنًا سيزول مفعوله في النهاية..
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء