سوق الدعارة الافتراضيّة في تونس


متعة، جنس، سريّة، وغيرها من الكلمات ذات الطابع الجنسيّ، هي المفتاح الذي ما إن تضعه في خانة البحث على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك حتّى تجد عشرات الصفحات التي تقدّم مختلف الخدمات الجنسيّة في تونس، بدءاً بالصور والأفلام الإباحيّة، وصولاً إلى سوق واسعة للعرض والطلب وتنظيم اللقاءات الحميمة وصفقات المتعة المدفوعة الأجر.
هذه الصفحات كانت شبه غائبة منذ ثلاث سنوات بسبب الرقابة الأمنية على الإنترنت في تونس وسيادة القمع والرقابة الذاتيّة، فضلاً عن الخوف من سطوة الشرطة الإلكترونيّة وعيون النظام، التي كانت حاضرة في عقل المواطن وفي كل ركن من حياته ورقيبة حتى على أفكاره وخيالاته الصامتة. غير أن تلك الصفحات عرفت بعد الثورة انتشاراً واسعاً وإقبالاً كبيراً، خصوصاً من الشباب الذّين كسروا حاجز الخوف واستطاعوا تجاوز منطق المحرّمات المفروضة عليهم قسراً لا اقتناعاً.
قانون السوق
لا يمكن إحصاء العدد الحقيقي لأسواق الجنس الافتراضيّة، نظراً لتكاثرها السريع واندثارها الأسرع، حالما تبدأ حملة التبليغ ضدّها. ولكن جولة سريعة على بعض هذه الأسواق يكشف بوضوح مدى الإقبال الذي تجده لدى الشباب والشابات. فأعداد المعجبين في صفحة "بنات تونس" تقترب من الثلاثين ألفاً، وفي صفحة "حسناوات تونسيات" تقترب من العشرة آلاف، فضلاً عن مئات المنضوين في مجموعات مغلقة تحتاج إلى إذن مسبق للانضمام إليها. أمّا عن الخدمات فهي ببساطة تتمحور حول ثلاثة أطراف: طالب متعة، وعارضة للخدمات، ومدير الصفحة الذّي يتولّى التنسيق. فما عليك إلا أن تنشئ حساباً باسم مستعار وتضع عرضك الذي يتضمّن المقابل الماديّ الذي ستدفعه لقاء الموعد الحميم، وسيأتيك الردّ سريعاً من المشرف على الصفحة. البداية تكون بطلب بطاقة شحن للهاتف الجوّال للوسيط، كاختبار لصدق نيات صاحب العرض، ولتنسيق اللقاء، ثمّ يتم تحديد أوصاف الفتاة المطلوبة ومدّة اللقاء ومكانه. وفي المرحلة الثانية يضع المشرف كلاّ من صاحب العرض والفتاة المنتقاة في اتصال مباشر عبر الهاتف لوضع الترتيبات الأخيرة. وفي النهاية يتم اللقاء بين الطرفين بعد أن ينال المشرف على الصفحة مكافأته الماليّة، إمّا من طريق الفتاة أو من طريق حوالة مالية، أو بصفة مباشرة حين يرافق صاحبة الشأن إلى مكان اللقاء.
إذن، تتجاوز هذه الصفحات بُعدها الترفيهيّ، إن صحّ التعبير، لتتحوّل إلى أسواق وفضاءات هدفها الربح الماديّ، وإن ظلّت حتّى هذه اللحظة محدودة المعاملات والأرباح. ولكن مقدار نموّها يشير إلى إمكان ازدهارها في المستقبل، لتصبح بديلاً لما يعرف بالمواخير الرسمية التي تخضع لرقابة الدولة على المستويين الأمني والصحيّ.
الملاذ الآمن
رصيف22 تمكنت من لقاء إحدى الفتيات اللواتي يعرضن خدماتهن على هذه الصفحات للحديث عن تفاصيل انخراطها في هذه التجارة الغامضة ولمحاولة تسليط الضوء أكثر على هذا العالم الافتراضيّ. لا شيء في مظهرها أو طريقة كلامها يوحي بداية بامتهانها البغاء السريّ، فمحدّثتنا طالبة جامعيّة لم تتجاوز الواحد والعشرين من العمر، لكنّ نمط حياة العاصمة ومتطلّبات الدراسة وسعيها لمجاراة مستوى معيشة رفيقاتها دفعت الآنسة ناهد إلى إيجاد مصدر دخل يعوّض المبلغ الزهيد الذّي يُرسله والدها إليها شهرياً من إحدى المدن التونسيّة. كما أنّ تجربتها السابقة وفقدانها عذريتها بسبب نزوة عابرة حطّما رهبتها من الجنس، وسهّلا لها ممارسة البغاء دون خوف من العواقب. أما عن تفضيلها الفضاء الافتراضيّ، فتقول ناهد إنّ فيسبوك يعدّ الوسيلة الأكثر أمناً وسريّة لتعاطي مثل هذا النشاط، إذ تبدأ العلاقة من وراء شاشة الكمبيوتر، وتنتهي أحياناً  دون أن يعرف أحد الطرفين شيئاً عن الآخر، بالإضافة إلى أنّ حالة الانفلات الأمني وازدياد عدد العناصر المتشدّدة في الشارع يمثّلان خطراً كبيراً إذا ما حاولت العمل في الطريق العام.
وتبدو محدّثتنا غير عابئة بالمخاطر التي قد تتعرّض لها في ظل هذه اللقاءات السريّة كالابتزاز أو الاغتصاب، أو حتّى الخطف والقتل، إذ تعتبر أن لكل مهنة مخاطرها. كما أنّ فيسبوك يظلّ أكثر أمناً من الشارع، ويمنحها حريّة أكبر في اختيار توقيت ومكان ممارسة هذه المهنة بدل التورّط مع شبكات منظّمة والوقوع في قبضة عصابات تحوّل الفتيات إلى ما يشبه الجواري في مقابل حمايتهنّ. علماً أنّ مسألة الحصول على ترخيص من الدولة أو مزاولة البغاء في الفضاءات المراقبة خيار انتحاريّ إذ يُحكم على الفتاة أن تعمل في تلك المهنة حتّى نهاية حياتها.
ثالوث القيم والغرائز والفقر
بعيداً من الجانب الأخلاقيّ في تناول موضوع أسواق الدعارة الافتراضيّة، تبدو هذه الظاهرة مثيرة للاهتمام ومدعاة لمزيد من التقصّي والفهم. ففي المجتمع التونسي يعدّ الحديث عن الجنس في العلن خروجاً عن المألوف، وانحداراً أخلاقيّاً وعيباً كبيراً، برغم أنّ الموضوع نفسه كثيراً ما يكون محور حديث معظم الجلسات الضيّقة والخاصّة.
هذا الانفصام يمثّل التربة الخصبة لنشأة مثل تلك الفضاءات التي تمنح مرتاديها أهمّ شرط وهو السريّة المطلقة. ويعكس مقدار عدد المعجبين والمتتبعين لتلك الصفحات مدى انتشار هذه الوسيلة الآمنة لتعاطي البغاء السريّ، برغم الأخطار الصحيّة التي قد تنجم عنها في ظل غياب الرقابة الصحيّة وغموض التعاملات والعلاقات بين مختلف الأطراف المتداخلة في هذه السوق، التي لم تعد حكراً على التونسيّين فحسب، بل أصبحت تستقطب الوافدين الجدد إلى البلاد، من الليبيّين الميسوري الحال، وصولاً إلى استغلال اللاجئات السوريات الهاربات من أتون الحرب الأهليّة، إلى جانب الأفارقة، لتتحوّل هذه الفضاءات كيانات فاعلة تمتلك قائمات من الفتيات يستجبن لكل الأوصاف الممكنة. ويظل البُعد الاقتصادي العامل الأبرز في ازدهار هذه المواخير البديلة التي تستغل الفقر والحاجة و"صدمة الحضارة" لكثير من الفتيات الوافدات إلى العاصمة التونسية من قرى ومدن صغيرة في شمال البلاد وجنوبها، لينخرطن في لعبة تسليع الأجساد وفقاً لقواعد جديدة لم تشذّ عن عصرها في زمن التكنولوجيا الرقمية.

الأجر يصل إلى 100 دولار
تكلفة تلك العلاقات تبدو مرتفعة مقارنةً بأسعار المواخير المرخّص لها. فعلى ما يبدو، إنّ للسريّة ثمناً مكلفاً. إذ يراوح أجر الوسيط بين 15 و30 دولاراً. أمّا الفتاة فالسعر الذي تطلبه عادة يخضع لمقاييس عدّة، أوّلها سنّها وأوصافها الجسمانيّة، بالإضافة إلى مدّة اللقاء وكلفة التنقّل، وهذا كله يكلّف "الحريف" (الزبون) ما لا يقل عن 60 دولاراً. وقد تبلغ التكلفة أحياناً 100 دولار.
اللافت أنّ الفئات التي ترتاد تلك الفضاءات لا تقتصر على الجالية الليبيّة أو على مراهقين يحاولون استكشاف هذا العالم الجديد، بل يعتبر الشباب والكهول الذين تراوح أعمارهم بين 25 و40 سنة من أهم مرتادي أسواق الدعارة الافتراضية، كما تبيّن تدويناتهم وعروضُهم انتماء أغلبهم إلى الطبقة الوسطى القادرة على سداد تكاليف لحظات المتعة السريّة.
وفي ظل ما تشهده البلاد من أزمة اقتصاديّة مستمرة منذ ثلاث سنوات، والتي أدّت إلى تآكل الطبقة الوسطى وتدنّي مستوى معيشتها، يتزايد الإقبال على تلك الصفحات برغم أنّ اللقاء الذي لن يتجاوز في أحسن الحالات ساعة أو ساعتين، قد يكلّف الشخص ما يعادل ربع مرتّبه.
أشكال أخرى للدعارة
العرض والطلب في سوق الدعارة لا يتوقفان عند فيسبوك، بل يشملان الهاتف أيضاً، الذي يعتبر الوسيلة الأعرق والأهم في تنظيم اللقاءات وربط الصلات بين طالبي المتعة وموفّريها. عملية ترتيب اللقاءات في تونس عبر الهاتف تنقسم إلى صنفين أساسيين، الصنف الأوّل والأكثر انتشاراً عبر وسيط معروف في كلّ منطقة سكنيّة، يكون بمثابة الواجهة وقناة الاتصال الرئيسيّة بين من يبحث عن تلك النوعية من العلاقات وبين مجموعة من الفتيات يضعن ثقتهنّ فيه ويزوّدنه بأرقام هواتفهنّ والشروط المطلوبة. ويوكل لهذا الأخير عملية الاتصال بالزبون والتأكّد من جديّته والتفاهم معه حول مكان اللقاء ومدّته والمبلغ الذي سيدفع للفتاة وللوسيط. وبعد ترتيب كلّ تلك الأمور يتم الاتصال مباشرة بين الفتاة المطلوبة والزبون ووضع الخطوات النهائيّة للقاء.
أمّا الصنف الثاني فيعتمد بالأساس على سائقي التاكسي الذين يصطادون زبائنهم من السيّاح العرب، خصوصاً الليبيّين. إذ يكون برصيد أولئك السائقين مجموعة من الأرقام التي تضعها الفتيات تحت تصرّفهم ليرتّبوا كل تفاصيل اللقاء مع من يبدي رغبته من السياح العرب أو الأجانب في قضاء وقت ممتع مع إحدى الفتيات، بالإضافة إلى خدمة النقل لأحد الطرفين للفندق أو لإحدى الشقق المعدّة للغرض. طبعاً، يتلقى الوسيط كالعادة مقابله من الفتاة أو من السائح، وأحياناً من كليهما.

برغم سعي العديد من الأطراف إلى محاصرة أنشطة الدعارة وتجارة الجنس، أكانت الجهات الرسميّة أو الجماعات الدينيّة، إلاّ أنّ الباحثين عن المتعة والمتعيشين من هذا السوق لا تعوزهم الحيلة في كلّ مرّة لاختراق الحصار المضروب على تجارتهم واستغلال كل الفضاءات المتاحة والوسائل التكنولوجيّة لتطويعها وخدمة مصالحهم. فبدءاً بالمقاهي والمطاعم والحانات، مروراً بالوسطاء عبر الهاتف وانتهاء بالفيسبوك، استطاعت تجارة اللحم الحيّ ان تمدّ قنواتها، لتنتعش أرباح الأطراف المتداخلة في أعرق التجارات منذ نشأة البشريّة.
شكرا لتعليقك