الإسلام والديمقراطية كما رآهما نجيب محفوظ


تكفير وملاحقات وجدل لم تتركه حتى بعد وفاته، ولن تتركه بقدر ما خلفه من تأثير في وجدان الجميع. أضف إلى تلك العوامل الثلاثة، محاولة اغتيال جسدي ومئات المحاولات للطعن في نواياه الدينية وعقيدته وعلاقته بالله ومرجعيته الفكرية والسياسية. هو الأديب المصري صاحب نوبل للآداب، نجيب محفوظ.
ربما فات على الذين استمعوا لآيات الطعن في عقيدة محفوظ، وعززوا تشككهم بقراءة رواية «أولاد حارتنا»، التي نالت من الجدل ما لم تحققه أي رواية عربية معاصرة، أن يقرأوا مقالاته، أو يقتربوا من أفكاره السياسية والدينية والديمقراطية في فترات كانت الأجواء السياسية مسمومة، ولا يُسمح فيها بأي متنفس.
وربما يصدم الكثيرين، من غموض نجيب محفوظ في التعبير عن آرائه الدينية والسياسية، التي جرّت عليه كل المتاعب والملاحقات، وفتاوى التكفير، مروراً بإهدار دمه. لكنه ربما كان طريقاً آمناً للتعبير عن رأيه، وإعلان دعمه الكامل والواضح للديمقراطية، وحرية الفكر والعقيدة، بما لا يجعله مطية لحاكم، أو يذهب به معتقلاً خلف أسوار السجون.

عن الدين

قد يخيّل إليك أن محفوظ صرّح يوماً بما يكنه للدين من عداء، ما جعل الجماعات الدينية تستبق النوايا، وتحكم عليه حكماً لا تراجع فيه بالكفر. لكن المثير أن أرشيف المقالات التي كتبها في الأهرام، تؤكد بما لا يدعو مجالاً للشك، أنه كان يكن احتراماً لا يقدر للدين. "الدين ليس معرفة تحفظ، ولكنه معاملة وسلوك، تقوم عليها الحياة الإنسانية الكريمة"، عبارة دونها الأديب الراحل في مقال كتبه عام 1976. ويقول: "المنافسة بين العقائد تحتدم، عندما تتشابه في الوسائل والغايات، لذا نشأ الصراع بين الإسلام والديمقراطية الغربية".

ملك الغموض

اختار محفوظ الوقوف في دائرة غامضة، لا تفصح للآخرين، عن توجهه العقائدي وآرائه في السياسة، وحتى حياته الخاصة. ولم يستطع أي من نجوم الإعلام المصري والعربي، ممن عاصروه، وعلى رأسهم الإعلامي طارق حبيب، استدراجه للبوح عن تفاصيل حياته الخاصة، أو قناعاته السياسية والدينية.

كان محفوظ يرى أن الدين ليس علماً ولا فرعاً من فروع المعرفة، إنما تربية روحية، يتجلى جوهرها في المعاملة والسلوك والرؤية. وبينما هو ينفي ماركسيته التي اتهمه بها أحد قرائه، يؤكد في الوقت نفسه، أن العقلانية والعلمانية، في أصلهما لا تضمران للدين أي عداء، ولكنهما تدعوان للفصل بينهما وبين السياسة، تحريراً للإرادة في مواجهة العصر. ورغم دفاعه عن العلمانية والاشتراكية والشيوعية، وحق من يدينون بها في عرض وجهات نظرهم، لم ينكر يوماً فضائل الإسلام، بل دوّنها في مقال عام 1976، معتبراً أن الإسلام نُشر لأنه وفر للفرد حياة كريمة، وعدالة اجتماعية شاملة، وأمر بالتعمير والعمل، واحترام العقائد الأخرى. وهو أسماه العقيدة التقدمية في إنسانيتها، والتي سبقت كل الممالك من فارس وبيزنطة والروم. بل ذهب أبعد من ذلك، مؤكداً أن الإسلام يصلح لكل مكان وزمان.

عن السياسة والديمقراطية

كان يعتبر أن استعداء السلطة "وسائل عقيمة"، لم تجد قديماً، ولن تجدي في الحاضر، أو المستقبل. فالصدام مع الحاكم في نظره، عمل لا معنى له، ولم يجد له تفسيراً في كتب التراث.
وفي الوقت الذي كان يحرص فيه على عدم الصدام مع رأس الدولة، في أي من حقباتها التاريخية التي عاصرها، رأى أن الفكر له طبيعة صدامية، لا يتفق مع السلام، لأنه يعني التراخي والجمود ثم الموت. فهو لا ينشط، ولا يتوهج، ويبدع إلا من خلال الصراع والخلاف والتحدي.
ويؤكد في مقال كتبه عام 1982، أن معظم تاريخنا السياسي والإنساني لم يكن إلا نبتاً من صراع لمعارك فكرية طاحنة، في الفكر والسياسة والأدب، وحتى الدين. فالحجر على بعض أركان الفكر وحرية التعبير، أخلى الميدان، بحسب تعبيره، من عناصر الإثارة والتحدي، معتبراً أن من يحجب جانباً من الفكر، كأنما حجب الفكر كله.
"لم يكن نجيب محفوظ يصرح عن رأيه الحقيقي في مجريات الحياة السياسية والاجتماعية، كان يعرف أن ما يرغب في قوله، يمرره بسهولة في أعماله الإبداعية"، يقول الروائي المصري وجدي الكومي. ويوضح أن نجيب محفوظ قال رأيه في ثورة يوليو عدة مرات، في أعمال "ثرثرة فوق النيل" و"حديث الصباح والمساء" و"ميرامار". وأضاف: "قال رأيه أيضاً في حكومات الملك، في القاهرة 30 أو القاهرة الجديدة. وكان له موقف مهم من الاعتقالات التي جرت في عهد عبد الناصر، حتى أنه طلب من توفيق الحكيم، التدخل عند عبد الناصر، أكثر من مرة، للإفراج عن المعتقلين من الأدباء والمثقفين".
ويكشف الكومي عن وثيقة تاريخية هي كتاب غالي شكري "أرشيف الثقافة المصرية السري"، الذي يدون مقولات مهمة لنجيب محفوظ في هذا الشأن. ويحكي فيه غالي شكري عن توفيق الحكيم، حين رفض طلب محفوظ للسعي عند عبد الناصر، واستغلال مكانته التي يقدرها الرئيس، للعفو عن المثقفين المعتقلين.

مصرية نجيب محفوظ

كان محفوظ ينادي دائماً بعدم تجريم الفكر، ويرفض أي نظرية في مجملها، سواء كانت ماركسية أو شيوعية أو ليبرالية أو دينية. باعتبار أن هناك دائماً بعض التفاصيل، في كل الأنظمة والتيارات، ينبغي الاستفادة منها لمصلحة الوطن، وترك ما لا ينفع. وعارض في مقاله في نوفمبر 1982، عودة فكرة المستبد العادل، أو الديكتاتور العادل. وهي الفكرة المشوهة التي تنتشر في الأدبيات المصرية. ويرى الكثيرون من الشعب المصري، أن الرئيس دائماً، يجب أن يكون مستبداً ليقضي على المؤامرات والفتن.
وقال محفوظ: "من الحقائق المسلم بها، أن لكل إنسان نقطة ضعف في تكوينه، الناس يخصّون العظماء والقادة بنظرة خاصة، كأنهم يطالبونهم وحدهم بالكمال، ويحاسبونهم بطريقة يعفون منها الرجل العادي".
وانتقد كثيراً ثورة 23 يوليو 1952، إذ لم يتمكن من كتم غضبه ضد الديكتاتورية، فكتب عام 1983، في ذكرى ثورة يوليو، أنه لا يكفي لقيادة نهضة في شعب أن تحبه، ولكن يجب أن "تحترمه" أيضاً. فاعتبر أن الديكتاتور يحب أمته، ولكنه لا يحترمها مهما ادعى عكس ذلك، وإلا فما كان ليفرض وصايته عليها، كأنها قاصر وما زالت.
ويقول: "في كنف دولة الاستبداد مهما بشرت بفكر تقدمي، فإن الفكر الآخر يصير مُجرماً، لينقلب الأمر إلى وصاية فكرية، تخنق في كنفها الإبداع والأصالة"، مشيراً إلى أن الاستبداد يولّد النشاط السري، والقهر يولّد العنف.

عن المعارضة

خاطب نجيب محفوظ رأس السلطة دائماً بأدب وحرص شديدين، لكنه كان دائماً يلاطف المعارضة، ولا يقسوا عليها، ويؤمن لها الأعذار، حتى في تصعيدها ضد السلطة. واعتبر في مقال عام 1983 أن المعارضة غير ملامة في تصعيدها، موضحاً أنها أخيراً تمارس دورها، بعد حرمان طويل، وتجارب مريرة، ومعاناة أليمة. ورأى أن المعارضة في أسوأ حالتها، أفضل كثيراً من الاستبداد في أحسن أحواله، وأنها وإن جاوزت الحد المسموح به، للحفاظ على استقرار الدولة، فهناك قضاء عادل يرد المتجاوز لحدوده. كما أشار إلى أن أخطاء الاستبداد مثل الهزائم، والديون والفساد والإرهاب، لا أمل في إصلاحها، إلا مع زمنٍ طويل، وعناءٍ مرير، وتضحيات الشعب جيلاً بعد جيل.
شكرا لتعليقك