قبل يومين من انتحارها في 28 يونيو الماضي، كانت ميساء شروف ترتدي ثياباً بألوان زاهية على غير عادتها. التقت مصادفة بزميلتها في الثانوية حكمة مصدق التي عبرت لها عن إعجابها بإشراقتها، لكن ميساء لم تبدِ أي تفاعل مع كلمات صديقتها، اكتفت بابتسامة مصطنعة، ثم سمّرت نظراتها في الفراغ وكأنها أرادت البوح بشيء ما. لكنها سرعان ما حبسته واكتفت بكلمة "يعيشك"!
لماذا انتحرت ميساء المراهقة التونسية، ذات الثمانية عشرة ربيعاً؟ كانت تبدو طبيعيّة بحسب تصريحات أقاربها وأصدقائها. مجتهدة، مثقّفة، طيبة، ومحبوبة، ولم تظهر عليها أيّ أعراض تكشف ميولها الانتحارية. إذا عدنا إلى نظريات علم النفس حول بواطن شخصية المنتحر، وميوله نحو الانتحار، نجد أنّ منها ما يخلق بالفطرة، ومنها ما يكتسب.
حالة عامّة
خلال العام الماضي، سجّلت تونس انتحار 549 شاباً وشابة، أعمارهم تراوح بين 15 و35 عاماً. وسجلت 305 حالة انتحار بين الشباب، خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام، بحسب تقارير المرصد الاجتماعي التونسي، التابع للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ما يعنينا في قضية ميساء، أنّ انتحارها حرّك مجدداً قضية حقوق المرأة المدنية والاجتماعية في تونس، وحقها في اختيار نمط حياتها ومعتقداتها، الذي يكفله الدستور. ولأن انتحارها أحدث هزّة في أوساط الجمعيات الحقوقية والإنسانية والمؤسسات الإعلامية، فترك خلفه آلاف الأسئلة من دون إجابات، أو فهم لهذا السلوك الذي أصبح ظاهرة في تونس، كما بعض الدول العربية.
ربما تكون قصة ميساء أثارت جدلاً أكبر من غيرها، لأنّها كانت في نظر أصدقائها تبدو طبيعية، وسلوكها غير عدواني. وما أجج تلك النار، مدونة كتبها حمادي الخليفي، إثر معرفته بخبر انتحارها. تلقف مجهول المدونّة، ونسبها لميساء، وقال إنها أردنية. ومنها انتقلت إلى عشرات الصحف والمواقع العربية.
يقول الخليفي: "رغم أنني لا أعرف ميساء شخصياً، تأثرت جداً بحادثتها. والقطعة النثرية، كتبتها لأنني أعيش في جوهر أزمة الشاب التونسي عموماً والفتاة بشكل خاص، خصوصاً ذوات النزعة التمرديّة أو التحرريّة على التقاليد البائدة ومعايير المجتمع، التي تتعارض أصلاً مع القوانين. أدركت فوراً أن ميساء ضحية جديدة من ضحايا هذا المجتمع الأبوي السلطوي، بعاداته الرجعية التي رغم القوانين المتقدمة التي شرعها الرئيس الراحل بورقيبة، فإن العرف التقليدي، يبقى الغالب. ونرى ذلك في ممارسات وسلوكيات رجال الشرطة ورجال الدين، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بحقوق المرأة المكتسبة بالدستور، لكن المجتمع يكفّرها".
مشاكل عائليّة
تنحدر ميساء من عائلة مسلمة محافظة، والدتها تونسية ووالدها سوري - تونسي، يعمل سائق تاكسي. لديها أخت وشقيقان مسافران يعملان منذ شهور في ليبيا. واللافت أن ميساء انتحرت بعد ليلتين من عودة أخيها من السفر. فهل لقدومه علاقة بقرارها؟ وهل علاقتها بأخيها مهتزة ومعدومة التفاهم؟ هل طلب منها مثلاً أن تلتزم بالدين والحجاب، أو ألزمها بالزواج من أحدهم؟ هل حصلت مشادة ما؟ أسئلة طبيعية، ومن الظلم بمكان أن نصدر الأحكام، من دون معرفة نوع العلاقة بين الطرفين.
غير أن زميلتها حكمة مصدق، تكشف عن أمر لم تفصح عنه في السابق. وتقول لـ"رصيف 22" إن ميساء كانت تجرح أماكن كثيرة من جسدها بالشفرة، وكانت والدتها تسيء معاملتها، وتضربها أحياناً، وكانت تشعر بإهانة شديدة، لحرصها على عدم الرد على والدتها احتراماً لها. لكنها كانت تتألم من الداخل. ذات يوم قالت لحكمة: "كم أكره نفسي". نسألها إذا كانت نصحتها بالتوجه لاختصاصي نفسي، فتؤكّد أنها لم تفعل، لكنها نصحتها بالتوجه إلى جمعيات ومراكز ثقافية.
كنتُ إنساناً جميلاً وساذجاً
ما كانت تنشره ميساء من صور وأقوال وكتابات على صفحتها على فيسبوك، كان كافياً ليكشف عن حجم يأسها من الحياة، وعن مدى تأثرها بنظريات فلسفية تمجد الانتحار كسلوك وجودي عبثي. يقول صديقها أحمد الحمدوني في أحد منشوراته على فايسبوك، إنه سبق أن التقى بميساء شخصياً، وكانت متأثرة بالفلسفة العدمية، وبأفكار كافكا وكامو وبيار روتشلد. لكنّها لم تكن قد حسمت بعد رأيها بالمسائل الدينية واللاهوتية، وعبّرت عن أن اهتمامها بهم أدبي عدمي صرف. وأضاف أنه رغم أنها لم تكن تعاني مشاكل نفسية، فقد كشفت له أنّها تعاني من التسلط الأخلاقي والتربوي لعائلتها عليها، وسألته حينها عن قانون معتمد في بريطانيا وهو "حق التخلي عن الحياة"، وأنها تتمنى نهاية وجودية كنهاية روتشلد.
لم يعرف أحد ميساء، ولم يسع لفهمها، حتى شقيقاها ووالدتها، وأصدقاؤها لم يلمحوا ميولها الانتحارية، ولم يقرأوا ما وراء سطورها الأخيرة قبل نحو شهر من رحيلها. كتاباتها تشير إلى أنها كانت في مراحل متقدّمة من الاكتئاب. ونشرت صوراً وأقوالاً ثائرة ومأثورة لكبار الفلاسفة والكتاب العالميين. ولعل الكثير من اصدقائها لم يقرأ ما وراء تلك السطور، ولمَ استشهدت بها، ولم اختارت مثلاً قول نيتشه: "هذا ما أطمح إليه، فلنضع حداً يا إرادتي لكل الصغائر، أنت مقصدي، فاحفظيني للظفر الأعظم". كانت تلك السطور بمثابة إنذار يقول: "إني راحلة". إلى أن قررت الإعلان، وبشكل أوضح قبل شهر تقريباً. فكتبت قبل شهر من انتحارها: "حولت رجائي للمعرفة فإني مللت جبني وعجزي عن الانتحار. لم أعد أبحث عن حل لهذه الحياة وكم يزعجني جهلي ما يحدث حولي، وأنا أشاهد ولا أرى ولا أستشعر شيئاً. إنني أفقد إنسانيتي، ورغم هذا يزداد التزامي تجاهها وكأنني أقدرها خصوصاً بعد فقداني لها. كم كنت إنساناً ساذجاً جميلاً. البشر والعلاقات. الدراسة المجتمع الأسرة. لا أرى غير أنها قيود، ولا تزيدني إلا بؤساً وقيداً. تفقدني حريتي وتحد مني، من أفكاري، من أحرفي، ورموزي من أجل أن أكون فرداً مكعباً لتحشرني بين آلاف المكعبات مثلي فقط ليكوّنوا بنا وبأنفسهم لوحة الوهم الحقيقي الذي يخضعون لها وهم صانعوها".
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء