البشرة السوداء في الثقافة الشعبية التونسية: موسيقى وجنس وتصوّف



بعد الثورة التونسية خرج موضوع أصحاب البشرة السوداء من التعتيم الإعلامي الذي مورس عليهم في العهود السابقة وأصبح جدلاً قائماً في المشهد الإعلامي والحقوقي، لما عاشته هذه الفئة من تهميش طوال عقود برغم مساهمتها الكبيرة في تشكيل هوية تونس الثقافية. من هو أصحاب البشرة السوداء في الثقافة الشعبية التونسية؟

إسطمبالي... ذاكرة تدوّن تاريخ الاستعباد

ارتبطت موسيقى الاسطمبالي في تونس بسود البشرة. وترى بعض المصادر التاريخية أنها تعود إلى بعض التجار الأفارقة الذين استقروا في شمال أفريقيا. وتعتمد هذه الموسيقى على آلات أساسية هي القمبري والطبلة والشقاشق، وهي عبارة عن صفائح من نحاس تصدر صوتاً شبيهاً بصوت أصفاد الحديد وتذكرنا برنين السلاسل والأغلال في العهود السابقة حين كُبّل بها أصحاب البشرة السوداء بعد أسرهم كعبيد واقتيادهم إلى برّ تونس. وتُستعمل هذه الموسيقى في بعض المناسبات برغم طابعها الروحي والصوفي الشعبي، وتنشط بعض الفرق في إحياء هذا التراث الغنائي والتعريف به.

تروي الأسطورة الشعبية أنّ شخصية بوسعدية، "الراقص الزنجي" في عرض موسيقى الإسطمبالي، هو في الأصل ملك من ملوك إفريقيا خطف تجار الرقيق ابنته سعدية من خيمتها فتنكر في زيّه الغريب المكوّن من فرو الحيوانات وريش الطيور وبعض الإكسسورات الحديدية، وهام على وجهه لعله يجدها في تونس التي عُرفت في الماضي بكونها سوقاً لتجارة "العبيد". يهمهم بوسعدية بكلمات غير مفهومة، لعل ابنته المخطوفة تستمع إليه من أحد البيوت فتفهمها وتخرج من سجنها لتهرب معه ويعودان إلى وطنهما.
هذه الأسطورة تطرح علينا سؤالاً: كم من أسود البشرة خُطف من بين أهله وبيته ووطنه ليباع ويشترى في تونس وغيرها من الدول؟ وكم من إنسان أسود البشرة جنى عليه لونه لقي حتفه من جرّاء المعاملة القاسية أو الجوع أو العطش في رحلات البرّ والبحر قبل وصولهم إلى بلدان غريبة عنهم لا تمُتّ إليهم بصلة ليبدأوا فيها رحلة العذاب؟

سوق "العبيد" في تونس

بوسعدية-4
كانت تونس في الماضي قبل أكثر من قرن ونصف، أي قبل إلغاء الرقّ نهائياً في 23 يناير 1846 في عهد أحمد باي، تشتهر بسوق "العبيد" في المدينة العتيقة بالعاصمة والذي عُرف بسوق البركة أو النخاسة.
وتأسس سوق البركة في العهد العثماني وبأمر من إبراهيم داي سنة 1612، ويُنسب إسم البركة إلى الجمال التي كانت تبرك في المكان والتي كانت تحمل "العبيد" قبل عرضهم على مصطبة عريضة ليقلّبهم الزبون وليقوم شخص بمدح صفاتهم في مزاد علني يتنافس فيه الزبائن على شراء جارية أو عبد.
اختلفت ألوان وأعراق "العبيد"، ولكن اتفق أنّهم بضاعة للبيع يختلف السعر بين عبد وآخر. يعلو سعر الرقيق الأبيض فيما ينخفض سعر الرقيق الأسود، وتختلف حتى طرق تغذيتهم والاعتناء بهم، إذ يهتم النخّاس بتغذية الرقيق الأبيض لارتفاع سعره وندرته في السوق التونسية فيما تسوء تغذية الرقيق الأسود ربما لتهيئتهم نفسياً وجسدياً للمهن الشاقة.

الجنس المحرّم داخل قصور الأعيان

دخل سود البشرة ذكوراً وإناثاً بيوت وقصور أعيان البلاد لخدمتهم وقضاء شؤونهم وتسليتهم أيضاً. وعُرفوا باسم شوشان للذكر وشوشانة للأنثى وهي كنية للتحقير من سود البشرة والتقليل من شأنهم.
كان الذكر يقوم بمهن الحراسة وقيادة هودج سيّدته فيما تقوم الشوشانة بمهام الطبخ والتدليك والتجميل وصولاً إلى دور المرشدة أو المعلمة الحميمية في أمور الجماع والمتعة لذكور العائلة في المستقبل.
في المقابل حمل المخيال الشعبي صورة شبقية عن سود البشرة إذ ترتبط بهم صورة شهوانية ترمز إلى القوة الجنسية بعكس الجنس الأبيض. وفي هذا السياق وُلدت علاقات كثيرة في قصور الأعيان بين الأسياد البيض والجواري السود أو الشوشانات كما أطلق عليهن في ذلك الوقت.
وقد دوّنت أغنية المالوف التونسي "شوشانة" هذا الصنف من العلاقات السرية في الماضي وتقول في مطلعها:
شوشانة ماني سيدك واليوم يا شوشانة حكمي فيدك
يا شوشانة وآش خبّرْتْ لِلاّك على ملقانا
وتعني: يا مملوكتي أنا سيّدك ولكن اليوم حكمي بيدك. يا مملوكتي ماذا أخبرت سيّدتك عن موعدنا؟

تروي الأغنية قصة علاقة غير شرعية بين سيّد أبيض وجارية سوداء البشرة حيث تنقلب كل المعايير الأخلاقية والقيمية ويصبح السيّد عبد غريزته والليالي الحمراء مع جاريته التي ستنهمك في عمل آخر غير الاعتناء بشؤون سيدتها وهو إشباع غرائز سيّدها في سريّة بالغة حتى لا يبلغ الأمر مسامع سيّدتها فتغضب على زوجها وعليها.
يتملك الرجل الأبيض هاجس الجنس مع المرأة سوداء البشرة إذ يعتقد الكثير من الرجال البيض أنّ ممارسة الجنس مع امرأة سوداء أمر خارق يمنحه متعة مضاعفة مقارنة مع نساء بني لونه. في عملية الجنس الملوّنة ينصهر الجسدان فلا يعبأ الأبيض بعنصريته ودونية صاحب اللون الأسود في مخيلته فهو يقوم بتذويب جسده في الآخر المغاير له لوناً، من أجل بلوغ أقصى درجات المتعة.
وهذا الأمر له جذور في الثقافة الشعبية إذ ركّزت بعض الأمثال على شبقية السوداء لا سيّما في بعض مناطق الجنوب التونسي، وأشهرها على الإطلاق "نكاحهم دواء خاصة في فصل الشتاء".

أولياء صالحون من سود البشرة

بوسعدية-2
بعيداً عن أمور الدنيا من الرقص والجنس، كان لأصحاب البشرة السود تونس دور كبير في الإسلام الطرقي أي الصوفية الشعبية، فقد ارتبطت أسماء بعض الأولياء الصالحين بالبشرة السوداء. ومن أشهرهم سيدي منصور والمعروف باسم منصور الغلام ويقع مزاره في محافظة صفاقس جنوب الجمهورية التونسية.
وتروي الأسطورة الشعبية أنّ سيدي منصور غلام هو رجل أسود البشرة استقرّ به المطاف في محافظة صفاقس منذ أكثر من خمسة قرون، أي خلال العهد العثماني، وكان يشتغل وصيفاً لدى الوليّ الصالح سيدي علي الكرّاي قبل أن يكتشف هذا الأخير الكرامات الخارقة لـ"عبده" ويعتقه.
وتقول رواية أخرى أنّه كان "عبداً" لصاحب مصنع نسيج وكان يترك له القطن والصوف لغزلهما كل ليلة، فيقوم الغلام الأسود بتقديمهما له صباحاً إلى أن اكتشف سيّده لغز غيابه ذات ليلة عن العمل ليلاً وقضاء كل الليل في الصلاة والعبادة بعد أن قدّم له عمله في الصباح، وحينما ذاع سرّه في كل المدينة حتى وصل إلى السلطان غاب الغلام منصور عن الأنظار ليجدوه بعد سنوات مغسلاً ومكفناً في المكان الذي يقع فيه مزاره اليوم.
ويُعتبر مزار سيدي منصور إلى اليوم من أشهر المقامات في تونس، وما زال يحظى بالزيارة من التونسيين والأفارقة، في خرجة سنوية في أوّل شهر أغسطس، وهي عبارة عن كرنفال استعراضي يقوم على الغناء والرقص تشرف عليه إمرأة سوداء البشرة تسمى بالعرّيفة ويقال أنها من آخر سلالة الوليّ الصالح سيدي منصور.
وتشارك في الخرجة السنوية فرقة غنائية من أصحاب البشرة السوداء في تونس تسمّى بـ"عبيد سيدي منصور" وتنشد هذه الفرقة على أنغام الإسطمبالي حضرة أو نوبة سيدي منصور: "سيدي منصور يا بابا وجيتك نزور يا بابا" وتجوب هذه الفرقة بصحبة أتباع الوليّ أحياء المدينة العتيقة بجهة صفاقس. وأهمّ أتباع الوليّ هم من أصحاب البشرة السوداء سكان منطقة المقام وبعض النازحين من قرى مثل قرقنة وعقارب والمحرس وغيرها.
وما زال مقام سيدي منصور مقصد الكثير من الأشخاص الذين يقصدونه للتبرّك به وقضاء حوائجهم على اختلاف ألوانهم وفئاتهم وشرائحهم الاجتماعية، وهي من العادات المتوارثة في تونس والتي لم تتغيّر في أوساط اجتماعية كثيرة.
شكرا لتعليقك