إذا كان لكل امرئٍ نصيب من اسمه، فلماذا لا يُمنّى “منتصر” إلا الهزائم؟ كيف بسبب أمانته ورفضه أن يزج بأقاربه إلى المجهول حيث تسفيرهم خارجًا بتأشيرات مزورة، يلاقي السجن والخيانة!؟ كيف تركنا المخرج عاطف الطيب نتعاطف مع القاتل؟ كيف تداعت دولة القانون وأصبحت مرتعًا للأوغاد والسفلة.. وكيف ينمو الحل الفردي كبديلٍ لتحكيم القانون والأخذ بأسباب العدالة؟
كيف انهارت القيم لدرجة أن يصبح القاتل بطلاً قوميًا؟ هل منتصر شخصية طيبة أم شريرة؟
وجدتني أتساءل مثل هذه الأسئلة عند مشاهدتي أيقونة عاطف الطيب وأحمد زكي فيلم الهروب وكيف تنهار القيم الفاصلة وتُمحى الحدود بين الصواب والخطأ، بين الجاني والضحية، بين الخير والشر؟ منتصر شاب جنوبي، لازال يحتفظ بصورة أمه التي تعمل في الأرض بينما هو يظل شاردًا في الأفق يراقب الصقور وهي تحلق عاليًا وترتفع إلى مالا نهاية، يقيم في القاهرة للعمل ولأجل الارتباط بابنة عمه يجد نفسه محاصرًا بالأخلاقيات الجديدة، أو بمعنى أصح “أخلاقيات اللا أخلاق”، هنا ليست قريته “الحاجر” حيث الخضرة والبراح والدفء، وصورة الأم وهي تتطيب بطين الأرض، لا يوجد هنا صقور تخترق أجنحتها السحب، كل شيء هنا قابل للبيع والشراء والمساومة عليه، حتى القيم.. حتى ابنة عمه الحبيبة، حتى صورة والدته وهي تعمل في الأرض قد تصبح بلا ثمن وهي التي لا تُقدّر بثمن.
تتصادم القيم الجنوبية هنا مع لا أخلاقيات العولمة، وقواعد السوق المفتوح.. فلقاء التمسّك بالقيم، لا يجد منتصراً إلا الخيانة ويجد نفسه مسجونًا لرفضه التنازل، ها هو ذا منتصر ينهزم في الجولة الأولى، لا ينهزم أمام غريمه فقط، بل ينهزم أمام قيمه ومعتقداته التي استقاها من طين قريته “الحاجر” ومن ميراث والده صيّاد الصقور الذي كان حرًا مطلقًا جناحيه محلّقًا حتى عنان السماء، الذي كان يغيب فتشعر الأم أنه لن تراه بعدها أبدًا.
فهل يغيّر منتصر معتقداته هذه؟ بل يزداد تمسكًا بها.. الموت عقوبة الخائن، وهاهو ذا منتصر يصدر الحكم وينفذه.. وهنا تبدأ رحلة الصقر الذي لا يستطيع الطيران منخفضًا، يُلاحق منتصر من قِبَل العدالة، العدالة التي تحمي الأوغاد واللصوص، التي تؤمّن الخونة والقوادين، العدالة التي تمتلك معايير عدة، ولا تعرف القيم ولا الضوابط.. هل هذه عدالة؟
لذلك نجد أن التعاطف ينشأ مع منتصر، وتُحكى عنه الحكايات والأساطير، منتصر ليس فردًا، بل رمزًا للثورة ضد الاستبداد.. ضد الظلم وانهيار القيم والحدود الفاصلة بين الضحية والجاني، منتصر كذلك ليس بطلاً يحارب من أجل القيم النبيلة، بل من أجل الثأر الشخصي، من أجل الانتصار لقيمه وأخلاقياته.
منتصر متعلقًا بوالدته، لذلك فهذه هي ورقة الضغط عليه، يقبضون عليها من أجل إجباره على تسليم نفسه، وبالفعل يُسلم نفسه، قيمه لا تسمح له أن يترك أمه في السجن، حتى وإن كان هو كبش الفِداء.. لكن يُسهل له الهروب مرة أخرى لأن منتصر لم يصبح فاعلاً.. بل أصبح مفعولاً به، يتم استعماله للتمويه الإعلامي على حادثة المرأة الحديدية تارة أو جماعات التطرف الديني تارة أخرى.
هنا يأتي الشغل الأمريكي، أحد الضباط القادم حديثًا من دورة تدريبية أمريكية للأجهزة الأمنية والمستعد لسحق كل من أمامه في سبيل الانتصار من يقوم بإشعال الإعلام في مسألة منتصر لإلهاء الرأي العام عن قضايا أخرى أكبر.. ووقت أن ينتهي دوره، يعطي أوامره على الفور بتصفية منتصر..
كارت محروق ووجب إخراجه من اللعبة، هنا تقابل ما بين شخصيتي منتصر والضابط… أكثر المجتمعات انغلاقًا وتمسكًا بالقيم وبالمبادئ النابعة من الأرض، والمتمثلة في منتصر وكل من يساعدونه خاصةً أقاربه ومعارفه الجنوبيون ليس تعاطفًا معه بشكل شخصي فحسب، بل دعمًا لقضيته ودعمًا لقيمهم والانتصار لها، وبين الضابط المتأمرك والقادم من أكثر المجتمعات انفتاحًا وداعيًا للعولمة وتصدير المبادئ الهلامية الهابطة من السماوات المفتوحة.
فيلم الهروب “عدودة” صعيدية تخاطب البشرية وتبكي بأسى وألم على الإنسان وتئن بمرارة ضد العولمة التي جرّفت كل ما يمكن تجريفه في الإنسان، حتى إنسان أكثر المجتمعات انغلاقًا، يمكنها بفضل المعاملات الاقتصادية والاجتماعية وثورة الاتصالات والهجرات الجماعية للخارج.. أن تجرف كل ما يمكن أن يتربى عليه.
الهروب مواجهة مع العالم، مع السلطة، مع المسؤولين اللئام، مع كل هؤلاء السفلة والخونة والأوغاد.
أرى أن هيكل فيلم الهروب بكامله يوحي بأنه على هامش الأحداث والقضايا الكبيرة، ثمة ملاحم أخرى تدور للإنسان العادي، وهذه هي قيمة الفَنّ دائمًا لاسيما الأدب والسينما، حيث يلقيان الضوء على هؤلاء الذين يشاهدون الأفلام أصلاً، بحيث أن الإنسان يشاهد الفيلم كي يشاهد نفسه، ويقرأ الرواية كي يقرأ نفسه..
وكذلك على هامش قضية المرأة الحديدية التي ألهبت الرأي العام فترة الثمانينيات، توجد ملحمة منتصر التي يضعها الفيلم في المقدمة ويهمّش هذه القضايا الملتهبة والمصيرية (ويظهر هذا في إحدى مشاهد الفيلم).
منتصر الذي يحاول الهروب من غيلان السيطرة والهيمنة وسماسرة الإمبريالية وقوادين القيم، ولكن دون جدوى.. سيلقى مصيره في النهاية، منتصر للأسف.. لم يكن إلا أداة.
لأنه رغم ذلك، قد يمكن اصطياد الصقور مهما حلقت عاليًا وتصورت أنها قد تنجو من مهاويس الافتراس.
الكاتب :محمد سيد رشوان
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء