المنامات والرؤيا عند العرب


v في كتاب "المواعظ والإعتبار في ذكر الخطط والآثار" من القرن الخامس عشر ميلادي، يحكي لنا مؤلفه المقريزي قصص ملوك كانوا يتحايلون على أقدارهم بكشف محاولات اغتيالاتها من نذائر تجلت لهم في أحلامهم. إن اعتقدوا بأن أحلامهم نجحت بذلك أم لا هي قصة أخرى، إلا أن أحلامهم التي وصلتنا تحكي لنا قلقهم على السلطة، ومخاوفهم ممن حولهم، وأيضاً المعتقدات التي آمنوا بها.
عرفت ثقافة العالم القديم الأحلام كنوع من التجليات الرمزية، تساءل من خلالها البشر عن الوجود الغيبي، وتشابكت تفسيراتها مع القيم الثقافية والمعرفية التي نسجت سردها من المعتقدات المتوارثة والعادات السائدة. وفي التاريخ الإسلامي، أصبحت جنساً أدبياً خاصاً، واستخدمت في أدوار سياسية ودينية، ومجالاً للمواعظ الأخلاقية. ودراستها اليوم قد تكون باباً للتعمق في فهم التركيبة النفسية والفكرية لشعوب استنطقت في أحلامها نبوءات الآلهة عن المستقبل، وتوجيهات لمجرى حياتهم واختياراتها.
في الثقافة الإسلامية خصوصاً، تغلغلت الأحلام في أنساق ومناهج شملت الإرث الأدبي العربي كاملاً: فنجدها في المقامات، في قصص السيرة الرسمية والشعبية، في قواميس علم الرجال، في كتب التاريخ، وفي كتب الأخبار وفي ألف ليلة وليلة.
image

البدايات والتأثيرات الأولى

منذ خمسة آلاف عام، قدم السومريون في بلاد ما بين النهرين أقدم دليل على الأحلام، يعود لعام 3100 قبل الميلاد. منها نعرف أن الملوك وشعوبهم آمنوا بقدرة الأحلام على التأثير في مصير الناس. فكانوا يعتقدون أن الروح أو جزءاً منها أثناء النوم، تترك الجسد وتتنقل بحرية لتزور أماكن وأشخاصاً، وأن هنالك إلهاً يحمل الروح في تجوالها.
وفي أقدم ملحمة من الشرق القديم، يرى جلجامش سلسلة من الأحلام، تساعده والدته على تفسيرها. هي نبوءات عن مستقبله، فكان يتضرع للآلهة لتمنحه رؤيا في أحلامه. فهو يصلي لإله الشمس ليعرف مخبأ خمبابا، وتضرع لإله القمر ليصل إلى الحكيم إوتنابشتيم.
قسم البابليون والآشوريون الأحلام إلى ثلاثة أنواع: خيرة آتية من الآلهة، سيئة مرسلة من الشيطان، ونبوءات لأحداث المستقبل. أما في معتقدات المصريين القدماء، فتعتبر الأحلام رسائل من الآلهة، وكان المصريون يزورون المعابد وينامون في أسرّة مخصصة للأحلام، على أمل أن تصلهم رسائل الآلهة. ومع استمرارية تأثير ثقافة الشرق القديم، اشتركت الأديان السماوية الثلاث باعتبار الرؤيا جزءاً من النبوءة. فتتكرر النبوءات في سفر التكوين، وكمثال عليها ماتجلى ليعقوب عليه السلام في رؤياه لسلم امتد من الأرض إلى السماوات.

تأثر تطور تعامل الإسلام مع الأحلام بداية بالثقافة اليونانية، التي قدمت نظريات مختلفة للأحلام. وكان العمل الأهم لتفسير الأحلام، الذي بقي من الثقافة اليونانية الرومانية، هو مخطوطة بعنوان "تعبير الرؤيا" لكاتبه الإغريقي أرطميدورس أو أرتميدورس الأفسي (الذي عاش في القرن الثاني الميلادي).
اهتم أرطميدورس بالبحث في ماهية الأحلام، فجمع كل المخطوطات المتوفرة في زمنه، واستشار المنجمين والمفسرين، وتوصل إلى تعريف للحلم قسمه إلى خمسة أنواع: الرمزي، التكهني (ذو المصدر الإلهي)، الخيالي (الذي ينبع مما نتوق له)، أحلام اليقظة، والكوابيس.
ما يميز الكتاب أن أرطميدورس ربط تفسير الأحلام بحالة الشخص نفسه، وبيئته ووضعه. ولعل الفكرة الأشهر التي لا تزال تتداول حتى اليوم في العالم العربي، التي يذكرها أرطميدورس، هي تفسير الرموز بعكسها. فالموت في الأحلام هو إشارة للحياة، وقد اعتقد به المصريون القدماء، فالمال والذهب هما نذير بالفقر، والفرح يفسر بمصائب آتية.
imageمن كتاب "ما قل ودل" للفنان الكاريكاتيري عصام حسن

في الديانة والثقافة الإسلامية

مع بدايات الإسلام، كانت شبه الجزيرة العربية تحكم على الأحلام بريبة، وصلت حدّ الرفض المطلق. ما تشهد به التهم التي وجهت للرسول عند بدء دعوته. ونراه أيضاً في استمرار ارتباط الأحلام بشكل وثيق بالنبوة، فتذكرها الأحاديث النبوية كواحد من 45 باباً/جزءاً للنبوة.
ومن قصص السنة النبوية، نعرف أن الاهتمام بالأحلام استمر بقوة، فكان الرسول الكريم يسأل أصحابه في مجالسهم أن يقصوا أحلامهم عليه ليفسرها لهم. وقد ميز بين "الأحلام"، التي تأتي من "الشيطان"، و"الرؤيا" الصالحة التي تأتي على شكل بشرى من الله، لكن استخدام الحلم والرؤيا أصبح متداولاً ليعني الشيء ذاته.
في الأدب الإسلامي العربي، تذكر الفهارس وكتب التاريخ أكثر من 181 عملاً عن موضوع الأحلام وتفسيرها، بعضها لكتاب مشاهير، وبعضها الآخر لمغمورين لا نعرف عنهم الكثير. ويرجح أن قسماً كبيراً منها هو تصانيف ونسخ معدلة للأعمال التأسيسية الأولى. ما يقدره الباحثون والباحثات في هذا المجال، أن تفسير الأحلام استمد من سياقات دينية ورمزية، ولم يأخذ طابعاً مستقلاً كنوع أدبي وتوجه فكري، إلا بعد أن بدأت فترة التدوين. فتحولت المعتقدات المتوارثة والقصص التي تناقلها الناس ونسبوها للرسول والصحابة، أساساً لمبادئ شاملة ارتكز عليها تأويل الأحلام، وتطور تدريجياً في مبادئ تصنيفه وتنوعه وغناه المعرفي حتى قال عنه الحسن بن بهلول "إن تعبير الرؤيا علم جليل".
يعتبر ابن سيرين أشهر من كتب عن تفسير الأحلام حتى يومنا هذا، ربما لأنه أول من أطر مبادئها، في عدد من الكتب التي نسبت له. على رأسها كتابه منتخب الكلام في تفسير الأحلام المشهور بعنوان "كتاب تفسير الأحلام الكبير"، الذي يعتبر بمثابة قاموس ومرجع لمعقتدات المجتمع الإسلامي الأول عن الرموز والمضامين للمنامات والأحلام. اهتمام ابن سيرين بالأحلام ترافق مع قدرته على تفسيرها، لكن شهرته كمحدّث تقي غلبت على تفسيره للأحلام حتى منتصف القرن الثالث/التاسع، حين بدأ كتّاب الأدب يستشهدون بأمثلة من تفسيره للأحلام. في أعمال ابن سيرين، أو ما يسند إليه مما وصلنا منها، تركيز على الأخبار النبوية والقرآن الكريم، ومن قصص الأنبياء، والأشعار والاشتقاقات اللغوية، وطبائع الأشياء.
المؤسس لهذا النوع في شكله المنهجي هو أبو سعيد نصر بن يعقوب الدينوري (410 هـ) الذي أهدى كتابه الشهير "القادري في التعبير" (ويعرف أيضاً بكتاب التعبير في الرؤيا)، للخليفة القادر بالله (الذي حكم بين عامي 381 هـ/991 م و422 هـ/1031 م). أهمية الكتاب أنه أقدم عمل عن تفسير الأحلام وصلنا كاملاً، اعتمد ما جاء في كتاب أرطميدورس، وتوسع بما يناسب بيئته الإسلامية. هذا العمل عبارة عن 30 فصلاً، مقسمة بدورها إلى 1396 باباً، منها 15 مقالة عن طبيعة الأحلام، وسلوك الحالم، وأنواع الأحلام الصادقة والكاذبة، تعريف كل منها وتفسيرها، ونصائح للمفسرين (المعبرين). وفيه رموز تفسيرية لا تزال معروفة اليوم: الحليب في الأحلام هو المعرفة، النار هي رمز لملك، الأم هي الوطن، المال هو الكلام، الحديد هو القوة، أما الخبز فهو العيش الرغيد، وجلد الحيوان في المنام هو إرث في الحياة. وإذا جاء لصّ في المنام فهو نذير مرض قد يصيب المرء، وبضعة مئات غيرها من الرموز.

تجلي الأنبياء ورؤية الملائكة في المنام

في ورود الأنبياء في الأحلام انعكاس لفكرة قديمة تفترض قوى عليا كمصدر لهذه الرؤى، ولذلك تعتقد بقدسيتها وصدقها. من أهم الفلاسفة الذين كرسوا لهذا الفهم للأحلام أفلاطون، الذي خالفه أرسطو وأرجع الأحلام لحالة الإنسان واستبعد أصلها الإلهي.
وردت في القرآن الكريم آيات عدة تشير إلى ألفاظ الرؤيا وصورها، لعل أشهرها قصة يوسف عليه السلام، وبهذا احتفظت رؤيا الأنبياء بقدسيتها في الإسلام.
يقول إبن سيرين أن رؤيا الأنبياء أحد شيئين، إما بشارة وإما إنذار، فمن يرى آدم في حلم قد يقع في مصيدة مكيديه، وأما نوح فرؤيته في الحلم تعني طولة العمر، والنبي هود في الحلم يعني فترة اختبار وخسارة يليها فرج، ورؤية إبراهيم تعني أن صاحب الحلم سيذهب إلى الحج (وهذا لأنه من بنى الكعبة في معتقدات المسلمين)، ومن رأى أيوب "ابتلى في نفسه وماله وأهله وولده ثم يعوضه الله من كل ذلك ويضاعف له لقوله تعالى "ووهبنا له أهله ومثلهم".
لكن التجليات في الأحلام وظفت في كتب التاريخ والأدب لتخدم أهدافاً كثيرة، سياسية وأخلاقية. من أشهر تجليات الأنبياء في الأحلام قصة وصول العرب إلى الأندلس: في غمرة الغزو والتخطيط الحربي، قرر طارق بن زياد أن يركب آخر سفينة تنقل جنوده من المغرب شمالاً، وأثناء اجتياز المضيق، غفا غفوة قصيرة ارتئا له فيها النبي وحوله المهاجرون والأنصار، وقد "تقلدوا السيوف" و"تنكبوا القسي". فقال له الرسول: "يا طارق تقدّم لشأنك!"، ونظر طارق إليه وإلى أصحابه، وقد دخلوا الأندلس، فهبّ من نومه مستبشراً وبشّر أصحابه وثابت نفسه ببشراه ولم يشك في الظفر". وهذه هي القصة كما يرويها المقري من كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" في القرن الحادي عشر هجري، أي قرابة عشرة قرون بعد طارق بن زياد، وبعد نهاية الحكم الإسلامي في الأندلس. الحلم يتلبس سرداً خاصاً ويضفي قداسة على دخول الأندلس، وكأنها نبوءة كان لابد أن تتحقق، مباركة لأنها تعكس صورة النبي والصحابة.
من المنجمين والعرافين الذين يقرؤون المستقبل في أحلام الناس، وصولاً للاعتقادات الشعبية بمعاني الرموز المبشرة بثروة أو سفر أو لقاء، والمنذرة بموت أو كارثة، إلى ما وصلت إليه تفسيرات الأحلام اليوم، وأرائك أطباء النفس الذين يعتبرونها عينة عما يجول في خواطرنا ومجالاً لعلاج مشاكلنا وتنغيصاتنا. تتماهى الأحلام مع قيم ومفاهيم عصرها، وتأخذ أبعاداً معرفية وفكرية، فيها نظرة ليس للمستقبل، بل لمجتمعاتنا ومعتقداتنا، ومن خلالها كل ما يجول في خواطرنا من هواجس ومخاوف وأمنيات. كانت الأحلام، وما زالت، مجالاً خصباً خصوصاً للفن بكل صوره وأجناسه، ومجالاً غنياً للكشف عن الرغبات الحقيقية للأفراد ومعتقداتهم، ومجالاً خصباً أيضاً للباحثين، والعلماء، والمشعوذين.
شكرا لتعليقك