حين تأسّست "جمعية الشروق للثقافة والمسرح"، عام 1995 برئاسة المخرج والممثل محمد فري مهدي، كان المسرحيون الجزائريون عرضةً لآلة الإرهاب التي حصدت بعضهم، وشرّدت آخرين، لكنها لم تفلح في إرغامهم على الصمت والانزواء، فكانوا يحملون ديكوراتهم في الحقائب، في حكم الأكفان، ويخوضون في الأقاليم، عارضين أعمالًا تدين الموت وتنتصر للحياة.
في فترة الإرهاب في الجزائر، كان المسرحيون يحملون ديكوراتهم في الحقائب، في حكم الأكفان، ويخوضون في الأقاليم
الجمعية التي يشرف عليها، في مدينة معسكر، 400 كيلومتر غربًا، شباب بعضهم موظف وبعضهم بلا وظيفة، قدّمت أعمالًا مسرحية بميزانيات شبه موجودة، وأخرى منعدمة تمامًا، معتمدة على تطوع المخرجين والممثلين والسينوغرافيين والكتّاب والموسيقيين، لكنها لفتت الانتباه إليها، وحصدت جوائزَ وازنة في مهرجانات وازنة، في مختلف العناصر المسرحية، منافسة بذلك المسارح الحكومية التي تتلقى أرصدة مالية من الوزارة الوصية، تكاد تكون مساوية لميزانية بعض الدول الأفريقية.
أعمال مثل "حب ودموع" و"صورة دوريان غراي" و"دم الحب" و"كاليجولا" و"تارتيف" و"مسافر ليل" التي افتكت وحدها ثلاثًا وعشرين جائزة وطنية ودولية، أعطت درسًا في الفن والإيمان به، لجيل مسرحي جديد فتح عينيه على متاهة قاسية، وجهاها إدارة جافة ومنغلقة على نفسها في المكاتب المكيّفة، وإرهاب يعتبر ممارسة الفن طريقًا معبّدًا إلى المقابر.أحدثت الجمعية عام 2013 تحوّلًا كبيرًا بتأسيسها "مسرح القوس" الذي تولى الإشرافَ عليه الفنان مختار حسين (1987)، فاتحة بذلك فضاءً مستقلًا للمسرحيين، هواةً ومحترفين، استطاع على مدار ثلاث سنوات أن يصبح أسرة بديلة لهم، يهربون إليها من تعسفات العائلات والمدارس والإدارات والشوارع، ليصنعوا عالمًا سحريًا تختلط فيه الألوان والأوتار والأصوات والحروف، مشكلة حوارياتٍ تتخذ من الجمال منطلقًا وأفقًا.
يقول الممثل والمخرج والموسيقي مختار حسين لـ"الترا صوت" إن الهدف كان واضحًا منذ البداية "أن نستقطب الشابَّ الراغب في ممارسة المسرح، والمؤهل في الوقت نفسِه لأن ينخرط في دوامات العنف والحشيش والانحراف، بالنظر إلى توفر البيئة الخصبة لذلك، ونربطه بوجوه ذات تجاربَ عميقةٍ، ليتلقى منها تكوينًا علميًا في هذا الفن الذي لا يكتفي بالموهبة".
في هذا السياق، استقطب "مسرح القوس" المعروف بمسرح المسحوقين، ممثلين ومخرجين وكتّابًا وموسيقيين ذوي حضور نافذ في المشهد الجزائري، من مدن مجاورة وبعيدة، فأقاموا فيه واحتكوا بوجوهه، بعيدًا عن منطق الأستاذ والتلميذ، نذكر منهم تونس آيت علي وربيع قشي وفوزي بن إبراهيم وأحمد لكحل وهشام بوسهلة وحسين بن شميسة وحليم زدّام ومحمد يبدري وسفيان عطية وإسماعيل سوفيط وبوحجر بودشيش وإدريس بن شرنين وعبد الله جلاب وآمنة بلعابد وعيسى شواط وفتحي كافي.
بات "مسرح القوس" الذي يتخذ من نفق صغير في "حديقة باستور" مقرًّا له، مقصدًا للنخبة المسرحية الجزائرية
بات "مسرح القوس" الذي يتخذ من نفق صغير في "حديقة باستور" مقرًّا له، مقصدًا للنخبة المسرحية الجزائرية، ويراه كثيرون جنتهم الصغيرة التي تستوعب جنونهم الفني، وتمنحهم فرصة للتحليق خارج المساطر الجاهزة في الفن والحياة. يقول الممثل والمخرج ربيع قشي، أحد مؤسسي مسرح الشارع في الجزائر، من خلال "مسرح التاج" في مدينة برج بوعريريج، 200 كيلومتر شرقًا، إنه يقطع 600 كيلومتر "ليغسل روحه ودماغه في القوس، حيث لا تزال الأرواح المسرحية نظيفة، وغير متورّطة في ثقافة الريع التي باتت تنخر المشهد المسرحي".
من جهتها اعترفت الممثلة تونس آيت علي التي افتكت بمسرحيتها "الراحلة" عشر جوائز في الداخل والخارج، بأنها لجأت إلى "مسرح القوس" في الأسابيع الأخيرة، لتتخذ منه فضاء لإنجاز مسرحيتها الجديدة. "كان بإمكاني أن أفعل ذلك في أي فضاء مكيّف وفاره في الجزائر العاصمة، فعلاقاتي معروفة في هذا الباب، لكنني فضّلت "القوس" لأنني بحاجة إلى هذه الحميميات التي يحيطني بها شبابه وشاباته". تختم: "أفضّل رغيفًا بالجبنة في القوس، على وجبات الفنادق المصنّفة، إذ لا سلطة تعلو على سلطة الصدق".
هذه العلاقة العميقة التي أسّس لها "مسرح القوس" مع المسرحيين على اختلاف وجوههم وجهاتهم واتجاهاتهم، جعلت نخبة متوجة في "المهرجان الوطني للمسرح المحترف" تقبل أن تشتغل مجانًا في مسرحية "جرعة" التي أنجزت بميزانية صفرية، وتصرف على نفسها شهرًا كاملًا، في الوقت الذي كانت قادرة فيه على أن تجني الملايين من المسارح الحكومية أو الجمعيات المستقلة التي تملك دعمًا ماليًا. نذكر حمزة جاب الله المتوج بجائزة أفضل سينوغرافيا، وهشام قرقاح المتوج بجائزة أفضل ممثل، وحسان لعمامرة المتوج بجائزة أفضل موسيقى.
بعض الشباب الذين التحقوا بـ"مسرح القوس" عند تأسيسه، باتوا اليوم مخرجين وكتابًا، منهم عبد الوهاب بلّحول الذي أخرج مسرحية "المشروع" مع الممثلين قادة تاتي وبتول أوريناس، وعماد منصور الذي أخرج أكثر من فيلم قصير، وقاسم شرف الذي قدّم عرضًا لفت الانتباه إليه في فن الخفّة، وعبد الكريم بوعبسة الذي أحيا أول أمسية شعرية له، كل هذا في إطار السهرات الرمضانية التي برمجها "مسرح القوس" الذي رمى، فأصاب الرداءة وروح اليأس في مقتل.
حين تأسّست "جمعية الشروق للثقافة والمسرح"، عام 1995 برئاسة المخرج والممثل محمد فري مهدي، كان المسرحيون الجزائريون عرضةً لآلة الإرهاب التي حصدت بعضهم، وشرّدت آخرين، لكنها لم تفلح في إرغامهم على الصمت والانزواء، فكانوا يحملون ديكوراتهم في الحقائب، في حكم الأكفان، ويخوضون في الأقاليم، عارضين أعمالًا تدين الموت وتنتصر للحياة.
في فترة الإرهاب في الجزائر، كان المسرحيون يحملون ديكوراتهم في الحقائب، في حكم الأكفان، ويخوضون في الأقاليم
بات "مسرح القوس" الذي يتخذ من نفق صغير في "حديقة باستور" مقرًّا له، مقصدًا للنخبة المسرحية الجزائرية
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء