احذر اللقاء بكتابك المفضلين



هناك فكرةٌ شائعة تقول إنه من الأفضل للقارئ ألا يلتقي بكتّابه المفضلين كي لا يكرههم. وهناك تفسير شائع أيضًا لهذه الفكرة يقول إن اللقاء سيجعلنا نراهم بشرًا عاديين، لديهم سلبيات ونقائص، ويفعلون ما نفعل. 
اسم أبي العلاء المعري بات جملة بليغة كأي جملة كتبها هو نفسه في مدونته الأدبية
لكنّ الأمر أبعد بكثير من كل هذا الشائع، لا يجب اللقاء بالكاتب إلا من أجل الحفاظ على الوهم. ألم نرسمْ لهم صورًا خاصّةً خلال القراءة؟ ألم نحببْ تلك الصور ونتسمك بها كما لو أنها مقتنياتٌ لخيالنا؟ لماذا نعود ونقوضها بحماقة اللقاء؟ ألم نمنحهم أبعادًا ليست فيهم بالضرورة، لكن نصوصهم أجبرتنا على إضافتها؟ لماذا لا نصون ذلك الغموض وعدم اليقين الهائلَيْن بأنهم ليسوا من هذا العالم، لا لنمنح البشري بعدًا إلهيًا، وإنما لنحارب فكرة الموت من حيث إن الأدب خالد، كتبه أشخاص لا يعرفون الموت، والدليل أنهم يستطيعون توليد أنفسهم بأشكال مختلفة باختلاف القرّاء؟ أو على الأقل؛ لماذا لا نبقي كتّابنا أشباحًا وصورًا، حتى يكون للقارئ بعضٌ مما كان للكاتب وهو يؤلف نصه؛ إعادة تأليف النص بالتأويلات الخاصة، وتأليف المؤلف بالتوازي مع ذلك؟


شخصيًا أتخيل الكتّاب الذين أحبهم يتحدثون معي بالعربية. أعرف أنني من يركّب الصورة على هذا النحو، لكنني أستمتع باللعبة. كيف سأحبّ جوزيه ساراماغو، مثلًا، وهو يحدثني بالبرتغالية؟ هل يستقيم الحب والإعجام؟ وعلى أي أساس سأواصل حبَّ ماركيز وهو يثرثر معي بإسبانيّة لا أمتلك تجاهها أي إحساس؟ خيالٌ مثل هذا يزيد التقارب بين البشر، ويعطينا ما نأمله من الأدب بوصفه انتماء يمحو الحدود، وفعلًا يُكبر في الإنسان أمَّ القيم: الحرية. ثم إنّ الكاتب لا يكتفي بروايته أو قصصه أو أشعاره، بل يجعل الخيال نفسه ذا مفعول دائم في حياة القارئ. تمرّ في مكان ما من رواية "الحب في زمن الكوليرا" فكرة مفادها أن امرأة أعدّت حساءً وهي تقف قرب النافذة. زوجها على الغداء سيقول إنه يشعر أنّ المرق طعمَ نافذة. أفكار كهذه سترافق المرء ليبحث عن طعم الطرق في فنجان قهوته، وروائح الفجر في رغيف الخبز. ستواصل هذه الفكرة الماركيزية حفر نفسها في يوميات القارئ وتفاصيله، حتى يبدو متأكدًا من أنه هو من كتبها.
ربما يكون كتاب العصور القديمة أوفر حظًا، فقد منحهم التّواري ما يحتاجون إليه من السحر
ربما يكون كتاب العصور القديمة أوفر حظًا من كتاب عصر الحداثة. أولئك منحهم التّواري ما يحتاجون إليه من السحر. اسم أبي العلاء المعري بات جملة بليغة كأي جملة كتبها هو نفسه في مدونته الأدبية. المتنبي والجاحظ ودانتي وسرفانتس ودوستويفسكي نجوا، في حين أنّ صور ومقابلات محمود درويش الكثيرة قلّلت من وطأة أسطوريته، التي يمتلكها بلا شك.


في فترة ما، كنت مغرمًا بالروائي البيروفيّ ماريو بارغاس يوسا. وقتها كنت أردّد مع أصدقائي مقولاته وخيالاته ونتذكر مجونه وخزعبلاته الجنسية. يوسا الذي جاء إلى دمشق وألقى محاضرة كسر صورته فورًا. لغته الإسبانية التي لا أفهمها جعلتني أركز انتباهي على صوته الذي لم يعجبني، أو بالأحرى لأنه ليس الصوت الذي منحته إياه. طبعًا الطامة الكبرى في تلك المحاضرة أنه تحدّث عن أدب أمريكا اللاتينية بالأشياء التي نعرفها جيدًا. كان يظن أنه يقدم أدب قارته إلى أناس لم يسمعوا به من قبل، دون أن يعرف مثلًا أن مذكرات ماركيز "عشت لأروي"، كانت قد صدرت بالعربية بعد شهر تقريبًا من صدرها بالإسبانية. بدا يوسا في تعامله معنا كسذج وجاهلين ساذجًا وجاهلًا. فوق هذا كله، كانت الصورة التي رسمتها أعماله أقرب ما تكون إلى شخص نافر ومتمرد، لكنه في المحاضرة كان محافظًا في كل شيء، حتى في تسريحة شعره.مؤخرًا، أخذني الحظ إلى حضور قراءة وحوار للشاعر الصربي-الأمريكي تشارلز سيميك، الشاعر الذي تعلّمت منه الكثير، وكنت مفتونًا بمهارته في السرد داخل القصيدة، وبقدرة شعريته على الوصول إلى اللغات الأخرى، رغم برزخ الترجمة الذي يودي بالشعر والشعرية عادةً.
سليم بركات صورة طبق الأصل عن فكرة الشاعر، بعضلاته وبروتيله وشعره الشائب المكزبر
في تلك الجلسة، كان سيميك يقرأ الشعر بطريقة آلية خالية من أي إحساس، كما كان في الحوار يتحدّث كعجوز ممل، حتى أنه روى نكاتًا غير مضحكة على الإطلاق. خرجت وفي داخلي شعور مرتكب الجريمة الطازجة؛ قتلت صورةَ شاعر أُحِبُّها.


لا أحد يظهر، رغم ظهوراته القليلة خارج كتبه، مثل سليم بركات. وحده صورة طبق الأصل عن فكرة الشاعر. بعضلاته وبروتيله وشعره الشائب المكزبر. "سليمو"، كما سمّى نفسه في سيرته، لا يتصوّر بالكاميرات بمقدار ما يطبع نفسه في العيون كما يفعل مع الكلمات.في فيديوهاته ومقابلاته القليلة، يظهر شاعرًا يمتدح السكاكين ويقتنيها، وفي الوقت نفسه يتحدث عن هوس بزراعة الأشجار. كما يظهر روائيًا مكللاً بشخوصه: مم آزاد، بيكاس. أما في مقالاته فيكتب ليجرح.
صوت عميق تتلوه الأرض، وجه المكوّن من خطوط حادة على ورقٍ، كأنه بوتريه الفنان عمر حمدي "مالفا" فعلًا، كأنه خيالنا نحن أو خيال أحد ما أكثر مما هو شخص من دم لحم. 
إذا كان لا بد من كاتب يشبه خيالنا، فلا بد من اللقاء بسليم بركات.

شكرا لتعليقك