المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيك -الدرس الأول-


للمنطق الشكلي (الرسمي) تعريف ذائع جداً: المنطق هو علم قوانين اسلوب التفكير الصحيح وأشكاله.
ولكن تعابير (اسلوب التفكير الصحيح) غير واضحة، اذ يمكن فهمها على وجهين: أولاً: يمكن فهمها بمعنى (التفكير الأمين)، يعني ذلك الذي يعكس الواقع الموضوعي بأمانة، والذي يفضي بالتالي الى اكتشاف الحقيقة.
ويمكن فهمها ثانياً: بمعنى التفكير الصحيح في(شكله)، يعني المطابق لقواعد منطقية محددة، وهذه المسألة هي موضوع المنطق الشكلي.
لقد اشار فريدريك انجلز الى انه لا يمكن اعتبار المنطق الشكلي مجرد اداة للبرهان، الا على اساس فهم محدود، وبالتالي خاطئ. يقول: (والمنطق الشكلي نفسه هو-قبل ان يكون اي شيء اخر- طريقة تستخدم للحصول على نتائج جديدة، وللتقدم التدريجي من المعلوم الى المجهول: وهذا صحيح ايضاً فيما يتعلق بالدياليكتيك، ولكن على مستوى ارفع بكثير).


ان المنطق، يطرح المسألة العامة، المنهاجية، وبالتالي الفلسفية، ماذا يجب تان تكون بالمعنى العام، وسيلة معرفة الشيء، تلك التي تتيح اكتشاف الحقيقة.
وفي حين كان يجب على العلوم الخاصة ان تستقل عن فلسفة كانت في السابق وحيدة، غير مجزأة، لا يستطيع المنطق، بسبب طبيعته، ان يستقل عن الفلسفة، وهو العلم الذي يساوي ما لمضمون الفلسفة كلها من شمول، ويستخدم منهجاً في جميع حقول المعرفة. ان الفكر الفلسفي يتطلب فكراً منطقياً صارماً، صالحاً للعمل بواسطة المفاهيم. فكيف يستطاع فرز المنطق من الفلسفة-وهو الذي ساعد على اكتساب هذه الصلاحية، ويساعد هكذا على صياغة فكر فلسفي فعال-هذه الفلسفة التي يؤلف المنطق جزءاً منها؟
بما أن المنطق، يضع ويحل المسألة الفلسفية لاكتشاف الحقيقة-يعني القوانين التي يجب ان يخضع لها الفكر، وما عليه ان يتخذ من اشكال، لايصالنا الى النتائج الحقيقية- لهذا السبب يرتبط المنطق ارتباطاً لا ينفصم له عرى بنظرية المعرفة، وهذا يعني أن المنطق قد يكون مادياً او مثالياً، حسب اسلوبه في حل هذه المسألة الأساسية.


حتى في المنطق الشكلي، كما في كل فلسفة، اتجاهان متعارضان مباشرةً: الاتجاه المادي، والاتجاه المثالي، وهما يحلان، بصورة مختلفة المسألة الأساسية للمنطق: مسألة الحقيقة.
ان نزع القشور المثالية عن المنطق الشكلي، لهو احد (التصحيحات) التي قال بها فلاديمير لينين.
هناك من يعتقد، بأن المنطق الشكلي لا يدرس غير اشكال الفكر، في حين المنطق الدياليكتيكي يدرس مضمون الفكر نفسه، هذا الرأي خاطئ، ذلك أن المنطق الدياليكتيكي لا يدرس المضمون وحسب، وانما يدرس ايضاً اشكال الفكر. وأشكال الفكر الأساسية نفسها: المفهوم، الحكم، الاستنتاج، انما يدرسها-على حد سواء- المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيكي. انها تمثل الأشكال المنطقية التي يتلبسها الفكر عند انطلاقه لاكتشاف الحقيقة، والتي يتحدد فيها النتائج التي يحصل عليها الفكر. هذا هو الشيء المشترك بين المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيكي: وهذه الوحدة، تستبعد كل امكان للكلام عن منطقين منفصلين غير متلائمين في المبدأ، ومتنافين. ولكن ثمة درجات مختلفة في المنطق: الدرجة الدنيا، يعني المنطق الشكلي، والدرجة العليا، يعني المنطق الدياليكتيكي.
والاعتراف بدرجات مختلفة في المنطق، لا يعني بأن الاقرار بأن المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيكي لا يؤلفان سوى منطق واحد، ولا يعني انهما يندمجان، انهما يتمايزان باسلوب مواجهتهما الشيء، وبدرجة المعرفة التي يعطيانها عنه.
نفهم بكلمة (المنطق الشكلي) المنطق الذي يرتكز على قوانين الفكر الأربعة (الهوية، التناقض، العكس، البرهان)، والذي يقف عند هذا الحد، اما المنطق الدياليكتيكي فهو علم الفكر الذي يرتكز على الطريقة الماركسية المميزة لهذه الخطوط الأربعة: (الاقرار بالترابط العام، وبحركة التطور، وبقفزات التطور، وبتناقضات التطور).
من وجهة نظر المنطق الدياليكتيكي، ليست الحقيقة شيئاً معطى مرة واحدة لا غير، ليست شيئاً مكتملاً، محدداً، مجمداً، ساكناً، فالحقيقة هي عملية نمو معرفة الانسان للعالم الموضوعي خلال كل تاريخ المجتمع.


يقول فلاديمير لينين حول المنطق الدياليكتيكي: (المنطق هو نظام المعرفة، المعرفة هي انعكاس الطبيعة في ذهن الانسان، ولكنها ليست انعكاساً بسيطاً، مباشراً، كلياً. انها حركة نمو سلسلة من التجريدات وتكون مفاهيم وقوانين، الخ... ان الانسان لا يستطيع ان يدرك الطبيعة كلها على نحو كامل، في شمولها المباشر، انه لا يستطيع سوى الاقتراب منها، اقراباً مستمراً، بخلق التجريدات والمفاهيم والقوانين، وبخلق مشهد علمي للعالم، الخ).
ويقول في صفحات تالية: (ان توافق الفكر والشيء، هو حركة تطورية، ويجب ان لا يتصور الفكر (يعني الانسان) الحقيقة في شكل مجرد مشهد (صورة) شاحبة بدون حركة... ان المعرفة هي الاقتراب اللامتناهي، الأبدي للفكر نحو الشيء. يجب فهم انعكاس الطبيعة في فكر الانسان، ليس كشيء جامد مجرد بدون حركة، بدون تناقضات، وانما كعملية تطورية ابدية للحركة، لولادة التناقضات وحل هذه التناقضات).
عبر لينين عن هذا المفهوم للحقيقة، بوصفها حركة نمو تطورية، بهذه الصيغة الحاسمة: (من التأمل الخلاق الحي، الى الفكر المجرد، ومن هذا، الى النشاط العملي، هذا هو الاسلوب الدياليكتيكي لمعرفة الحقيقة، لمعرفة الواقع الموضوعي.).
عبر فلاديمير لينين، عن ان وضع مسألة الترابط بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية، يعود لطرح المسألة التالية: (هل تستطيع التصورات البشرية المعبرة عن الحقيقة الموضوعية ان تعبر عنها دفعةً واحدة، من كليتها، بدون شرط، وعلى نحو مطلق، ام انها لا تستطيع التعبير عنها الا بصورة تقريبية، نسبية).
وكتب لينين بعدئذ: (يرى انجلز ان الحقيقة المطلقة هي نتيجة الحقائق النسبية، والحقيقة المطلقة الناتجة من حقائق نسبية هي حركة تطور تاريخية، هي حركة المعرفة).
ولهذا السبب بالضبط، يتناول المنطق الدياليكتيكي الماركسي، الشيء الذي يدرسه، من وجهة نظر تاريخية، من حيث هو عملية نمو تطورية. انه يطابق التاريخ العام للمعرفة، يطابق تاريخ العلوم. وينتج من هذا ان وجهة النظر التاريخية في تفسير الحقيقة، هي احدى المقتضيات الرئيسية للمنطق الدياليكتيكي الماركسي.



الفيلسوف السوفييتي، كيدروف
يتبع...


شكرا لتعليقك