ظاهرة الاقتراب من الموت



لم يعد هناك أدنى شك بوجود ظاهرة أخرى غير مألوفة فرضت نفسها بقوة على الساحة العلمية ، يشيرون غليها بحالة الاقتراب من الموت . تجلّت هذه الظاهرة بين جميع المجتمعات البشرية ، باختلاف ثقافاتها و مشاربها ، و عبر فترات التاريخ ، القديمة و الحديثة . و مرّ بهذه الحالة الكبار و الصغار ، الروحانيين و الدنيويين ، علمانيين و دينيين ... و هناك أمثلة كثيرة على حالات الاقتراب من الموت يدخل فيها الأشخاص المتشككين الذين لم يتوقّعوا وجود هذه الظاهرة أساساً !.
ـ بعد التقدم الذي شهدته وسائل الإنعاش الطبية ، مما ساعد الأطباء في إعادة الكثير من الأشخاص من حافة الموت ، لوحظ نشوء حالة غريبة في مختلف الأوساط الطبية حول العالم ، و تتمثّل بتلك التصريحات التي تدلي بها نسبة كبيرة من العائدين من حالة الموت ! و عن تجاربهم الغريبة التي عايشوها خلال فترة موتهم المؤقت !. اجتمعت جميع تلك التصريحات المختلفة ، و القادمة من جميع أنحاء العالم ، إلى وجود عالم آخر تجري أحداثه خارج أجسادنا الفيزيائية !. و كان تأثير هذه التجربة على الذين خاضوها كبيراً ، خاصة من الناحية العاطفية و الروحية ! و هذا جعلهم يحدثون تغييرات كبيرة في حياتهم الشخصية بعد تلك التجربة.

أحد الباحثين الأوائل في هذا المجال هو الطبيب و الفيلسوف ، الدكتور " ريموند مودي " ، الذي بدأ عمله في هذا المجال كمتشكك ، لكنه الآن مقتنع تماماً بواقعية هذه الظاهرة و ما تخفيه مرحلة الموت من عوالم حسية و إدراكية غامضة . كان كتابه الأوّل الذي نتج عن مراحل أبحاثه الأولى بعنوان : الحياة بعد الحياة ، 1975م .
و اعتبر هذا الكتاب من الأعمال الكلاسيكية العالمية المهمة . و قام بتأليف كتابين آخرين في عامي 1983م و 1988م ، بحثا هذه الظاهرة بشكل أوسع .
بعد أبحاث الدكتور مودي ، فتح مجال واسع على مصارعيه لأبحاث عصرية أخرى . فمنذ العام 1975م ، أجريت دراسات كثيرة في بلدان مختلفة ، و أنشأت جمعيات عالمية عديدة ، بالإضافة إلى منشورات و مجلات مخصص تتناول هذا الموضوع و تتمحور حوله .
أما الكتاب المهم الذي نال شهرة واسعة ، فهو من تأليف الباحثة الأسترالية " شيري سوثرلاند " ، ( صدر في العام 1992م ) ، يحتوي على 150 حالة تم بحثها من قبل أكاديميين بارزين حول العالم .
لاحظ الدكتور مودي وجود تشابه كبير بين تجارب الأشخاص الذين أجرى عليهم دراسته . و هذا ساعده على التعرّف إلى خمسة عشرة عنصر يعتبر قاسم مشترك بين جميع الحالات ، و قام بعدها بتأليف حالة خيالية تحتوي على جميع هذه العناصر . فكانت التالي :
" ... رجل يدخل مرحلة الموت .... و بعد الوصول إلى مرحلة اليأس الكامل من وضعه الفيزيائي ، يسمع الدكتور الذي فحصه و هو يقول للممرضات : " لقد توفي " .. بدأ بعدها يسمع صوت غير مريح .. رنين أو طنين صاخب مرتفع الوتيرة .. و بنفس الوقت يشعر بأنه يسير بسرعة في داخل نفق مظلم طويل ... بعدها يجد نفسه خارج جسده .. و يرى ذلك الجسد الملقى على السرير من مسافة معيّنة ... يراقب الأحداث كأنه مشاهد لها و ليس مشارك فيها .. فيشاهد كيف تتم محاولة إنعاش جسده الفيزيائي من موقع بعيد .. يصبح في حالة هيجان عاطفي كبير .. بعد فترة قليلة ، تهدأ العواطف المتهيّجة ... و يبدأ بالتأقلم مع حالته الجديدة و يألفها ... يكتشف بأنه لازال يملك جسداً .. لكنه يختلف في مكوناته و طبيعته و قدراته عن ذلك الجسد الفيزيائي الذي خلفه وراءه .... يبدأ بعدها حصول أشياء كثيرة .. يأتي آخرون من ذلك العالم لمقابلته و مساعدته .. يتعرّف عليهم على أنهم أقربائه و أصدقائه الذين فارقوا الحياة من قبل .. بعدها ... يجد نفسه في مواجهة كيان نوراني مشعّ .. تنبثق منه نور غريبة لا يمكن وصفها .. يشع بالمحبة و الدفء و غيرها من مشاعر حميمة لم يألفها من قبل .. يظهر هذا النور المبهر الحنون أمامه ... فيسأله أن ينظر إلى الماضي و يقيّم حياته التي عاشها في الدنيا ... يسأله بطريقة تخاطرية واضحة المعاني و يملأها الحنان الذي لا يمكن وصفه ... فيبدأ بالرجوع إلى تفاصيل حياته الدنيوية ... فتمرّ جميع أحداث حياته و مجرياتها في ذهنه ، بسرعة خاطفة ، لكنه يدركها جميعها ، بكل تفاصيلها .. يدركها خلال لحظات سريعة .. بطريقة غريبة لا توصف بالكلمات أو المعدلات الفيزيائية الزمنية .. يشعر في مرحلة معيّنة بأنه يقترب من سدّ فاصل .. أو حاجز يبدو أنه يمثُل الحد الفاصل بين العالم الدنيوي و العالم الآخر ... ثم يكتشف فجأة بأن وجب عليه العودة إلى الدنيا .. و أن موعد موته لم يحين بعد ... في هذه النقطة بالذات ، يبدأ بالمقاومة .. فهو قد تآلف مع عالمه الجديد و لا يريد العودة .. فهو في حالته الجديدة مغمور كلياً بمشاعر قوية بالبهجة و الحب و السلام ....... لكن رغم رغبته في البقاء و عدم العودة ، يجد نفسه قد عاد فعلاً إلى جسده الفيزيائي ..... فيعيش من جديد .
يحاول بعدها أن يروي للآخرين عن تجربته التي خاضها في العالم الآخر ... لكنه يواجه صعوبة كبيرة في فعل ذلك .. السبب الأوّل يعود إلى أنه لا يستطيع إيجاد الكلمات اللغوية المناسبة لوصف تلك التجارب الغير دنيوية .. و تلك المشاعر الغير دنيوية .. و التي ليس لها مصطلحات دنيوية ..


السبب الثاني هو السخرية التي يواجهها من قبلهم ، فيمتنع عن الكلام حول هذه التجربة و يحتفظ بتلك المعلومات لنفسه ... لكن لهذه التجربة أثر كبير على حياته .. على نفسه .. على معتقداته و طريقة تفكيره ... خاصة نظرته تجاه الموت و علاقته بالحياة .." .
( مودي : 1975م )

ـ الدكتور " كينيث رينغ " ، الذي قام بدراسة علمية حول ظاهرة الاقتراب من الموت ، في العام 1980م ، أكّدت جميع نتائجها ما ادعاه الدكتور مودي ، لكنه وجد أن الأشخاص مرّوا بهذه التجربة على مراحل ، و النسبة الكبيرة منهم وصلوا للمراحل الأولى فقط .
ـ دراسات أخرى تابعة لباحثين مثل : ( كارليس أوسيس و أورلاندور هارالدسون ، 1977م ) ، و ( مايكل سابوهم و سارا كروتزيغر ، 1976م ) ، و ( إليزابيث كوبلر روس ، 1983م ) ، و ( كرياغ لونداهل 1981م ) ، و ( بروس غريسون و أيان ستيفنسون ، 1980م ) ، و جميعهم أيّدو ما وصفه الدكتور مودي عن هذه الظاهرة .
ـ قام الدكتور " مايكل سابوهم " ، طبيب مختصّ بأمراض القلب من جوجيا ، بإجراء تحقيق طبي مع مئة من مرضى المستشفى الذين نجو من حالات موت محتمة ، و وجد أن 61 بالمئة منهم قد خاض في تجربة الاقتراب من الموت ، و تتوافق رواياتهم مع العناصر الخمسة عشر التي نشرها الدكتور مودي في العام 1975م .
استطاع الكثير من المرضى الذين تم إعادتهم للحياة أن يصفوا بدقة كبيرة ، كل ما جرى في غرفة العمليات خلال غيابهم عن الوعي أو موتهم المؤقت . و قد تحقق الدكتور سابوهم من التفاصيل التي ذكروها أثناء غيابهم عن الوعي ، و وجد أن كلامهم كان صحيحاً ، و كانوا يدركون كل ما جرى حولهم خلال غيبوبتهم .

ـ أبحاث عديدة حول العالم كشفت أن هذه الظاهرة مألوفة عند جميع الشعوب . و هناك الملايين من الأشخاص حول العالم الذين خاضوا في هذه التجربة . أبحاث كثيرة مثل :
البحث الذي أجراه الدكتور " جورج غالوب " في الولايات المتحدة عام 1983م ، و الأسترالي " ألان كيليهر " و " باتريك هافن " في العام 1989م ، و أبحاث " مارغوت غري " في إنكلترا ، و " باولا غيوفيني " في إيطاليا ، و " دوروثي كاونت " في جزر المحيط الهادي ، و " ستيوانت باسريثا " و " أيان ستيفنسون " في الهند ، بالإضافة إلى أبحاث قادمة من دول كثيرة أخرى حول العالم ، و تتزايد باطراد . و بالرغم من أن هذه الظاهرة كانت مألوفة منذ فجر الإنسانية ، إلا أنها لازالت تعتبر ملاحظة جديدة في الغرب و المجتمع العلمي الحديث . فمنذ خمسة و عشرين عام فقط ، بدأ الناس يتكلمون عن تجربتهم بحرية ، خاصة بعد أن أصبحت مألوفة نوعاً ما بين المجتمع العلمي . و لازالت الأبحاث جارية حتى الآن .
ـ الباحثة الأسترالية ، الدكتورة " شيري سوثرلاند " ، أجرت مقابلات دراسية دقيقة مع خمسين من الذين عادوا من مرحلة الموت ، و وجدت أن تأثير هذه التجربة كان قوياً على سلوكهم في الحياة و نظرتهم التي اختلقت تماماً فيما بعد .
و حددت عناصر مشتركة بين جميع هؤلاء الأشخاص ، الذين قاموا بإجراء تغييرات جذرية في عاداتهم و سلوكياتهم بعد تلك التجربة . فاتصفوا بالحالات التالية :
الإيمان المطلق بظاهرة الحياة بعد الموت .
ـ 80 بالمئة أصبحوا يؤمنون بظاهرة التقمّص .
ـ غياب تام لحالة الخوف من الموت .
ـ انتقال كامل من الانتماء للديانات المنظمة ( المؤسسات الدينية ) ، إلى ممارسة تجارب روحانية شخصية .
ـ ارتفاع ملحوظ في القدرات العقلية ( الحدس و البصيرة ) .
ـ نظرة أكثر إيجابية عن ألذات و عن الآخرين ( إنسانية ) .
ـ الميل للعزلة و الانطواء .
ـ الميل إلى اتخاذ هدف أو مقصد إنساني في الحياة .
ـ اهتمام ضئيل بالنجاح المادي ( الدنيوي ) ، و الميل إلى التطوّر الروحي و الوجداني .
ـ 50 بالمئة واجهوا صعوبات في الانسجام مع المقربين منهم ( أصدقاء ، أقارب ، أفراد العائلة ) ، بسبب تبديل أولوياتهم و أهدافهم في الحياة .
ـ الميل إلى الوعي بالصحة و الاهتمام بها و صيانتها .
ـ محاولة الابتعاد عن المشروبات الروحية .
ـ معظمهم تخلوا عن التدخين .
ـ معظمهم تخلوا عن الأدوية الموصوفة طبياً .
ـ معظمهم تخلى عن مشاهدة التلفزيون .
ـ معظمهم تخلى عن قراءة الصحف و المجلات .
ـ الميل إلى الاهتمام بالعلاج الروحي .
ـ الميل على الدراسة و تطوير الذات .
ـ 75 بالمئة تخلى عن عمله السابق و راح يهتم بأعمال تهدف إلى مساعدة الآخرين .
ـ استنتجت دراسة أمريكية ، قام بها الدكتور " ملفين مورس " عام 1992م ، بأن العائدين من مرحلة الموت ، تفوق قدراتهم ثلاث مرات عن المواطنين العاديين ( حدس قوى و بصيرة قوية ) . و واجهوا صعوبة في ارتداء ساعات اليد ، و استخدام الكمبيوتر و ألات كهربائية أخرى . و البالغين منهم تحسّنوا بأموال أكثر من المواطنين العاديين ، و تبرعوا في خدمة المجتمع ، و عملوا في مصالح و وظائف تخص مجال الخدمات و المساعدة . و تناولوا الفاكهة و الخضار بكميات تفوق نسبتها عن نسبة الأشخاص العاديين .

ـ يعتبر المتشككين أن هذه الظاهرة هي عبارة عن هلوسة وهمية ليس لها أساس من الصحة أما الأسباب التي تؤدي إلى هذه الحالة النفسية أو العقلية أو الوهمية ، فهي كثيرة .
يمكن أن تنتج هذه الحالة العقلية بتأثير الأدوية المخدّرة المختلفة مثل المورفين أو الكاتيمين ، أو نتيجة افتقار الدماغ لكمية أكسيجين كافية مما يؤدي إلى نوع من الهلوسة .. و هناك من يقول أن هذه الظاهرة تعود إلى أسباب نفسية ، أي أن اعتقادات الشخص الخاصة حول موضوع الموت تتجسّد في تفكيره و كأنها تحصل فعلاً .. و هناك من يفسّر هذه الحالة الوهمية بأنها نتيجة مباشرة لدماغ يموت فيزيائياً مما يؤدي إلى نوع من الجنون أو الهلوسة أو الاضطرابات العصبية التي تجيز لهذه الحالة أن تحدث .

أجرى الدكتور " وليام فان لومل " ، الخبير في امراض القلب من هولندا ، دراسة على 345 مريض تم إحيائهم من الموت المؤكّد . و كانت النتيجة أن عشرة بالمئة منهم مرّوا في مرحلة بعد الموت ، و ثمانية بالمئة تذكروا القليل من أحداث هذه المرحلة . و أجرى مقارنة بين هؤلاء و مرضى آخرين خضعوا لذات الوسائل العلاجية و مرّوا بنفس الظروف الطبية ، لكنهم لم يمرّوا في مرحلة بعد الموت . فصرّح الدكتور ما يلي :
" إن الاكتشاف الملفت الذي توصلنا إليه هو أن ظاهرة الاقتراب من الموت هي ليست نتيجة تأثير الأدوية ولا الحالات الفيزيائية المختلفة ( موت الدماغ مثلاً ) . ففي النهاية ، 100 بالمئة من المرضى الذين خضعوا للعلاج قد عانوا من نقص في الأكسيجين ، و 100 بالمئة منهم تناولوا الأدوية المخدرة ، و 100 بالمئة منهم كانوا في حالة إجهاد شديد . فليس هناك أي تفسير لحقيقة أن 18 بالمئة فقط يمرّون في هذه التجربة . فإذا كانت الأسباب المذكورة سابقاً هي التي أدت إلى هذه الحالة العقلية ، وجب على الجميع أن يمرّوا في هذه التجربة دون استثناء " !.
شكرا لتعليقك