- عرض لأهم ما جاء في دراسة واقع النظام الدولي: قراءة في الميديا الغربية – د.أكرم حجازي.
أحداث كبيرة مرت ما بين دعوة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب إلى « إقامة نظام دولي جديد» في أعقاب حرب الخليج الثانية سنة 1992 وبين الحديث الحالي والنقاش والأطروحات القائمة حول انهيار هذا النظام وإعادة بنائه. في أعقاب قيام النظام الدولي ادعى فرانسيس فوكوياما الأمريكي الياباني وهو يدلل على انتصار الرأسمالية نصرًا ساحقا بأن الإنسان وصل إلى قمة التقدم، وأنه لم يعد ثمة بدائل لهذا الإنسان إلا التسليم بالرأسمالية، كأفضل نمط حياة، ولكن الآن وبعد هذه الأحداث يرد عليه وزير الخارجية الألماني السابق Joschka Fischer متهكمًا بعد عقدين من هذا القول:
“حين زعم فرانسيس فوكوياما، قبل أكثر من عقدين من الزمان، أن العالم بلغ نهاية التاريخ، أجبر التاريخ العالم على حبس أنفاسه. فكان صعود الصين، وحروب البلقان، والهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، والحروب في أفغانستان والعراق، والأزمة المالية العالمية في عام 2008، وثورات الربيع العربي، والحرب الأهلية في سوريا، كان كل ذلك مكذباً لرؤية فوكوياما التي صورت له الانتصار الحتمي للديمقراطية الليبرالية. بل وقد يكون بوسعنا أن نقول إن التاريخ أتم دورة كاملة في غضون ربع قرن من الزمان، منذ انهيار الشيوعية في أوروبا عام 1989 وإلى تجدد المواجهة بين روسيا والغرب. ولكن في الشرق الأوسط يعمل التاريخ على أساس يومي وبعواقب جسيمة. ومن الواضح أن الشرق الأوسط القديم، الذي تَشكَّل من بقايا الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، يتهاوى الآن … بل وربما يُعاد رسم حدود العديد من البلدان المجاورة بالقوة. ومن المؤكد أن الكارثة الإنسانية الهائلة بالفعل سوف تتفاقم”
على ضوء هذه الفقرة سنتوقف في هذا البحث عند أبرز القضايا التي تعصف بالنظام الدولي، معتمدين بالدرجة الأولى على المصادر الغربية وسنتطرق على التوالي للمحاور التالية:
أولًا: الثورات العربية ونقطة اللاعودة
ثانيا: أزمات الرأسمالية العالمية
ثالثا: تآكل النظام الدولي
رابعا: تآكل الدولة العربية
الثورات العربية ونقطة اللاعودة:
سواء كانت على « الهامش»، كما هو حالها منذ المائة سنة الماضية، أو احتلت « المركز»، ستظل المنطقة العربية كما كانت منذ فجر التاريخ، فعلا أو ردًا لفعل، مصدرًا للانعطافات الكبرى في تاريخ البشرية برمتها. لذا فإن أي فعل بحجم الثورات العربية ستكون له ارتداداته الطاحنة عاجلا أم آجلًا، هنا في المنطقة وفي أي مكان آخر في العالم. بل سيكون من العبث النظر إليها بمعزل عما يجري في العالم.
لم يعد مهما القول بأن « الربيع» تحول إلى خريف أو شتاء أو جليد ولا يهم الزعم والمكابرة بأن هذه الدولة مرشحة للانفجار وتلك آمنة أو عصية، ولا يهم التواري خلف محاولات التضليل والخداع ببعض الإصلاحات هنا أو هناك، ولا يهم التحصن بالشرعيات التاريخية أو العقدية، ولا يهم التهديد والوعيد بمعادلة الأمن مقابل الاستبداد.فالثابت أنه من المستحيل الاعتقاد بأن الاستبداد هو قدر الناس الذي لا فكاك منه. فلا العقائد، حيث قمة الوعي، تقول بهذا، ولا الفطرة الإنسانية، حيث قعر الجهل، تقبل به؛ وبالتالي فهو لا يمكن أن يكون إلا حالة استثنائية من المعيش، لا بد وأن تتعرض إلى مفاصلة حاسمة في يوم ما.
وعليه فلا الانقلابات والقتل الوحشي واستحضار الفاشية بأبشع صورها ستنفع، ولا إشاعة الاستقطاب الاجتماعي، ولا محاولات الاحتواء المالي والسياسي، فضلا عن التدخلات الخارجية قادرة على عرقلة الثورات عن الاستمرارية في الفعل الاحتجاجي. ولا ما يسمى بالحاجة إلى تعديل قواعد القانون الدولي ستصلح. فالمشكلة ليست مشكلة حزب أو جماعة أو نظام سياسي، بل في أميز ما قدمته الثورات العربية، ممثلا بذاك الفعل الجمعي الذي تمدد كالنار في الهشيم، مما يعني أن المشكلات في العالم العربي متماثلة، وواحدة لا تتجزأ. فكلها رفعت ذات الشعارات والمطالب، ونفذت نفس الفعل، وحققت نفس الهدف في مرحلتها الأولى.
باختصار:
فقد بدأ الحوار الشعبي مع النظم السياسية بلغة « إرحل»!!! وإلا… فلحظة الانفجار وقعت، وحواجز الاستبداد تهشمت، والنظم السياسية سرعان ما تبلورت في صيغة نظم بلطجة، وحقيقة أجهزتها الأمنية القمعية انكشفت، وانفضحت دموية جيوشها التي خلت من أية عقيدة قتالية، أو تحديد لهوية العدو، وتبين للعامة من الناس أن نظم الاستبداد ومن ورائها نظم الهيمنة، على السواء، بدت أمام ناظريهم وفي قرارة أنفسهم، خالية تمامًا من أية مرجعية عقدية أو أخلاقية أو إنسانية أو فلسفية تبرر وجودها أو سلوكها الوحشي .
هكذا؛ ما كان للثورة المضادة أن تفهم الحدث دون التأمل في مآلاته. وهكذا أدرك كل رموزها، أن الهدف التالي هو لا محالة إسقاط قواعد النظام. وأنها بالضرورة ستخوض معركة وجود مع الحشود البشرية، وإلا فقد تتعرض للسحق التام ولو بعد حين. وهكذا أيضًا أدرك النظام الدولي أنه الهدف الأكبر الذي لا بد وأن يسقط، وتسقط معه قواعد الهيمنة بكل رموزها وأدواتها وقواعدها.
وعليه فقد كان من الطبيعي أن تتحرك الثورة المضادة محليًا وإقليميًا ودوليًا، لرد عاصفة الثورات الشعبية، لكنه لم يكن طبيعيًا أبدًا أن تعتقد الثورة المضادة أو بعض الثوار أو عامة الناس أن الثورات الشعبية فشلت في تحقيق أهدافها، وباتت حدثا من الماضي يصعب استعادته أو تفعيله ثانية. فما يجري بالضبط هو سنة تدافع في الأرض، ليست الثورات الشعبية إلا شرارتها الأولى.
ولو كانت الثورات انتهت فعلًا، لما بقي ثمة صراع يذكر في أي من دولها، وعلى العكس تمامًا فإن ما نشهده واقعًا هو إصرار الثورات على تصعيد فعالياتها، حتى لو اضطرت إلى الرد على الثورات المضادة بذات المنطق والأدوات. وهذا ما نتابع وقائعه في العراق وسوريا ولبنان واليمن ومصر وليبيا. ولا ريب أن في الثورة السورية بالذات يكمن ما لا يكمن في غيرها حتى هذه اللحظة.
فرادة الثورة السورية
ما من ثورة عربية أو حركة سياسية أو حزب أو جماعة إسلامية أو وطنية أو جهادية ولا حتى فكرة تحررية أو أخلاقية أو إنسانية مناهضة للاستبداد، إلا وكانت الثورة السورية لها بمثابة الرافعة والطاقة الدافعة والديمومة التي تجعلها قادرة على الاستمرار، خاصة بعد انطلاق الثورات المضادة. وما من أيديولوجيا وضعية، كالقومية واليسارية واللبرالية والعلمانية والعنصرية، فضلًا عن الصفوية ومنتجاتها الهدامة، إلا وكانت لها الثورة السورية بالمرصاد، فضحًا وتعريةً… وما من منظومة أخلاقية أو إنسانية أو مرجعية قانونية أو مؤسسية، لدولة أو نظام سياسي أو جماعة أو مؤسسة، إلا وجردتها الثورة السورية من كل شرعية… أما النظام الدولي-بفعل الثورة السورية-فقد تعرض ولا يزال لأخطر مواجهة في تاريخه، تصل إلى حد التهديد بزواله، أو على الأقل السعي لإعادة بنائه.
ليست الثورة السورية شأنا محليًا أبدًا أبدًا، حتى لو اعتقد بعض السوريين بذلك، وعولوا طويلًا على نصرة دولية لا يمكن أن تأتي. وإذا كانت مصر مركز «المربط الثقافي» فإن سوريا « النصيرية» هي مركز « المربط الأمني الدولي»، وفي انفجارها؛ انتشار عارم للفوضى في المنطقة والعالم. فكيف تكون سوريا شأنا محليا؟ وكيف يكون التحصن بالوطنية رسائل تطمين للنظام الدولي بعدم الخروج؟
الثورة السورية في الميديا الغربية
1-موقف النظام السوري
كل التصريحات الغربية، لاسيما الروسية منها، وحتى السورية الرسمية، قطعت الشك باليقين أن الثورة السورية ليست شأنا محليًا، ففي مقابلة لبشار الأسد مع صحيفة «الصندي تلغراف البريطانية» قال:
« إن سوريا اليوم هي مركز المنطقة… سوريا مختلفة كل الاختلاف عن مصر وتونس واليمن. التاريخ مختلف، والواقع السياسي مختلف، إنها الفالق الذي إذا لعبتم به تتسببون بزلزال، هل تريدون رؤية أفغانستان أخرى أو العشرات من أفغانستان؟ أي مشكلة في سوريا ستحرق المنطقة بأسرها، إذا كان المشروع هو تقسيم سوريا، فهذا يعني تقسيم المنطقة برمتها».
2-الموقف الروسي
أما الروس، وفي إطار صراعهم مع الغرب على قيادة النظام الدولي، وسعيهم لإعادة بنائه، بما يمكنهم من استعادة مناطق نفوذهم التي فقدوها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي فقالوا ما لم يقله أحد قبلهم ولا بعدهم حيث أقر وزير الخارجية، سيرغي لافروف:
« إنّ الصراع يدور في المنطقة كلها، وإذا سقط النظام الحالي في سوريا؛ فستنبثق رغبة قوية وتُمارس ضغوط هائلة من جانب بعض بلدان المنطقة من أجل إقامة نظام سُنِّي في سوريا، ولا تراودني أي شكوك بهذا الصدد».
بعد تصريح لافروف أوضح الناطق الرسمي باسم الخارجية الروسية، ألكسندر لوكاشيفيتش ما قاله لافروف أعلاه:
«من الواضح تمامًا أن الوضع السوري مرتبط بأسس النظام العالمي المستقبلي، وكيفية تسوية الوضع ستحدد إلى حد كبير كيف سيكون هيكل نظام الأمن الدولي الجديد والوضع في العالم عموما»
حقائق أظهرتها الثورة السورية للعالم:
الحقيقة الأولى
التي لا يمكن أن يماري فيها أحد: أيًا كان محتوى التحركات السياسية ماضيًا وحاضرًا، فهي تؤكد قطعًا بأن الأسد لا يمكن أن يستمر سياسيًا، وأن بقاءه في السلطة اليوم أو غدًا بات أشبه بالعدم. وبنفس المقدار؛ فإن هيمنة الطائفة «النصيرية» سياسيًا تحطمت بالكامل، أما استمرارها فسيغدو حلمًا سياسيًا، ناهيك أن يرقى إلى مستوى ذلك اجتماعيًا، ولو في مستوى ما يسمى بالتعايش الاجتماعي.
الحقيقة الثانية
تقول بأن الثورة السورية التي أريد بها كسر إرادة الشعوب، ورغم تكلفتها المدمرة، انتشلت في المحصلة عموم الثورات العربية، وقدمت نموذجًا حقيقيًا لما تتطلبه الحرية من أثمان حقيقية لانتزاعها.
الحقيقة الثالثة
التي بات الجميع يتحدث عنها اليوم بلا استثناء، فهي التي أنجز فيها السوريون، واقعًا، ما لم تنجزه الأمة في مائة عام، فالثورة هدمت النظام الدولي، أو تكاد. فهذا النظام الذي نعرفه منذ مائة عام، لم يعد فعليًا قائمًا، وغدا بحاجة إلى بناء جديد أكثر منه ترميمًا. وهذا يعني أن المشاكل الدولية على وشك أن تبدأ، ربما بصيغة أكثر عدوانية ودموية مما وقع حتى الآن، وهو موضوع نقاش الجزء الثالث من التقرير.
الحقيقة الرابعة
إن بقاء « الدولة العربية» صار موضع نقاش في الغرب قبل الشرق، بعد أن تآكلت مشروعيتها، إلى الحد الذي لم يعد النظام السياسي يعنيه لا خدمات ولا حقوق ولا أمن اجتماعي ولا حاضر ولا مستقبل، بقدر ما تعنيه اللحظة الراهنة التي يعيشها. بل أن التغيير الديمغرافي والجغرافي صار واردًا على كل لسان إلى الحد الذي يتحدث فيه البعض عن اختفاء دول مثل العراق وسورية وهو ما يتجاوز الحديث عن انهيار الشرعيات التي أوجدت الدولة نفسها.
المصادر:
د. أكرم حجازي، واقع النظام الدولي: قراءة في الميديا الغربية، منتدى المفكرين المسلمين ومركز العصر للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية 2016.
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء