تناولنا في الجزأين السابقين قضيتين أساسيتين تعصفان بالنظام الدولي هما: الثورات العربية وأزمات الرأسمالية العالمية من ديون وتهرب ضريبي. وذكرنا كم أن هاتين المشكلتين أبرزتا إفلاس النظام الدولي وحتمية زواله قريبًا أو على الأقل إعادة بنائه من جديد. في هذا التقرير سنتحدث عن دلائل تآكل هذا النظام الدولي ثم نتبعه بتقرير آخر حول تآكل الدول العربية.
منطقة الانعطافات الكبرى
طالما تميز المشهد التقليدي للنظام الدولي، بوضعية تشريعاته وفلسفاته وبناه المعرفية والذهنية والإدراكية والفلسفية والأخلاقية والقيمية، وكذا وحداته السياسية والإدارية ومؤسساته ومرابطه الكبرى، ومنظوماته القانونية ومواثيقه الحقوقية، ونُظُم علاقاته وغيرها من التراتيب. ولا ريب أن كل هذه المرجعيات والنظم والأطر كانت مؤهلة للتعامل مع الدول القومية التي صنعها، ومع كل منتجاتها من الأحزاب التي نبتت في رحابها، وكذلك مع كافة الجماعات والحركات الوطنية والتحررية والتيارات السياسية، بمختلف تلاوينها الأيديولوجية والعقدية.
والواقع أن كل نواتج النظام الدولي: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية والصحية والإعلامية والقانونية والتشريعية، قبلت العمل تحت سقف النظام الدولي كما هو. بل إنها لم تفرط في وسيلة أو تدخر جهدًا إلا وبه تزاحمت، طوعًا أو كرهًا أو من باب الأمر الواقع، على أبواب النظام الدولي، والاندراج فيه كما لو أنه آخر المطاف، إما طلبًا للاعتراف، أو رغبة في الحماية، أو بحثا عن إنصاف في قضية ما، أو استجداءً لنصرة في مرحلة ما.
كان العالم الإسلامي وفي القلب منه العالم العربي، عقر الدار، أكثر من تعرَّض، على وجه الأرض من الأمم والشعوب،للتدمير والتخريب والسيطرة والتحكم في مصيره، ماضيًا وحاضرًا، دون أن يكون هناك أدنى أمل في الخروج من سطوة هذه الهيمنة. فلم تحتفظ دُوله بثروة ولا بحقوق ولا تنمية ولا اقتصاد ولا سياسة ولا حريات ولا أمنًا ولا أمانًا بقدر ما شاع واستوطن في دُوله الاستبداد وثقافته وقيمه التي ألقت بظلالها على الفرد والمجتمع حتى غدت ثقافة العبودية لدى الغالبية الساحقة من الناس، موالين ومعارضين، كما لو أنها الأصل والدين الحنيف وما دونها أو فوقها من الحريات استثناء وترف وتعدٍّ على سماحة الإسلام وولاية الأمر.
بدوره ما كان للنظام الدولي أن يعتق المنطقة وهي سيدة الانعطافات في التاريخ الإنساني، فكيف يمكن ذلك؛ والإسلام بالمرصاد لكل المنتجات الوضعية التي ائتلفت لمحاربته؟ وكيف يمكن لهذا النظام أن يركن حتى إلى ما يسمى بـ «القوى الإسلامية المعتدلة» بحيث يسلم لها زمام الأمور؟
لحظة الانعطاف الفارقة الأولى:
مثَّل الغزو السوفياتي لأفغانستان سنة 1979 أول لحظة انعطاف فارقة، عبر التيارات الإسلامية المقاومة والجهادية، التي أخذت بالظهور تباعا في شتى أنحاء العالم الإسلامي. وقدمت خطابا:
- عقديًا مناهضا للنظام الدولي
- رافضا لكل كينوناته ومرجعياته وآليات عمله وسياساته، بل ولكل مخرجاته ومنتجاته.
ولم تعد «التيارات الجهادية العالمية» على وجه الخصوص لتقبل الدخول في أية مساومات مع النظام الدولي ومؤسساته، أو مع النظم السياسية، أو مع القوى السياسية المخالفة، أو حتى مع ما بات يعرف بالمؤسسات الدينية التقليدية ورموزها. بل أنها، وخشية من «الإسلام الأيديولوجي»، رغم انزلاقها فيه، رفضت، ولمَّا تزل، أية مصالحات أو تقاطعات شرعية أو رسمية محلية، وأبت؛ ولم تأبه لأية نتائج قد تترتب على اختياراتها، ولا لأية نداءات أو محاولات احتواء أو تبرير أو تفاهم.
لحظة الانعطاف الفارقة الثانية:
تمثلت في الثورات الشعبية، التي انطلقت شرارتها في تونس، وامتد لهيبها شرقا، لتطيح بأعتى النظم السياسية، وتتوهج غربًا، وتحط بعض رحالها شمالا باتجاه أوروبا، وصولًا إلى شمال القارة الأمريكية. هذه اللحظة مثلت أول وأبرز اشتباك محلي مع الاستبداد، وخارجي مع النظام الدولي. ولعل أميز ما في هذه الثورات، التي خرجت بلا قيادات، أنها بدت كما لو أنها ردًا، ليس فقط على عقود الاستبداد والظلم وسوء الحال، بل وعلى فشل كافة الأطروحات الأيديولوجية، ورموزها ومؤسساتها وأدائها وآليات عملها
هاتان اللحظتان الفارقتان هزتا النظام الدولي من الجذور. وحثتا جميع القوى والنظم السياسية في العالم على التحرك، لمنع توغلهما، ومحاصرة آثارهما، وإبقائهما في حالة قذف باتجاه الداخل، إلا أنَّ النظام الدولي بمرجعياته ومنظوماته التقليدية بدا عاجزًا تماما عن التعامل مع الأطروحات العقدية وتمرد الشعوب
حتمية التفكك:
في ذلك يقول وزير الخارجية الألماني الأسبق، joschka fischer، في مقالة له بعنوان: (أمريكا المفتقدة):
لقد جرى الحفاظ على النظام الإقليمي الذي خلقته القوى الاستعمارية الفرنسية والبريطانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى وإلى نهاية الحرب الباردة والحقبة الوجيزة من الهيمنة الأميركية الأحادية التي أعقبت نهايتها. وتابع:
بيد أن اضطرابات السنوات الأخيرة العنيفة ربما تفضي إلى نهاية هذا النظام. الآن أصبحت الحدود الاستعمارية محل تشكيك، ومن الصعب أن نتكهن بما قد تنتهي إليه أحوال سوريا ولبنان والعراق والأردن. والآن أصبحت إمكانية تفكك المنطقة وإعادة تشكيلها -وهي العملية التي قد تطلق أعمال عنف لا توصف كما يحدث في سوريا-أعظم من أي وقت مضى.
وأيضًا مما عرى ورقة التوت عن هذا النظام العالمي المفكك مذبحة الغوطة الكيماوية في سوريا حيث بدأ الحديث الصريح العلني عن فشل هذا النظام ووضحت ذلك سفيرة الولايات المتحدة الأممية، سمانثا باور حين قالت
«إن المجلس لم يعد يقوم بالواجبات التي نشأ من أجلها في أعقاب الحرب العالمية الثانية».
وأشارت إلى أن:
«النظام الأممي اُبتكر عام 1945 للتعامل مع التهديدات من هذا النوع في المقام الأول»
(لكن)
«مجلس الأمن الدولي لا يقوم بمنع الأخيار من السيطرة على أفعال الأشرار وكبحها، ولكنه يتيح لروسيا استخدام حق الفيتو من أجل حماية حليفها الأسد، رغم إمعان الأخير في ذبح المدنيين بدم بارد وبالغازات السامة»
وهو الرأي الذي يتبناه أيضا رئيس الوزراء البريطاني فيما يخص مجلس الأمن.
أما على الصعيد المخابراتي فقد أدلى الرئيس السابق ل CIA، مايكل هايدن، بتصريحات تتعلق بمصير المرجعيات الدولية التي صاغت النظام الدولي سابقا، مؤكدا أن:
«الاتفاقيات العالمية التي عقدت بعد الحرب العالمية الثانية بدأت تنهار، مما سيغير حدود بعض الدول في الشرق الأوسط». وأن: «الذي نراه هو انهيار أساسي للقانون الدولي، نحن نرى انهيارا للاتفاقيات التي تلت الحرب العالمية الثانية، نرى أيضا انهيارا في الحدود التي تم ترسيمها في معاهدات فيرساي وسايكس بيكو، ويمكنني القول بأن سوريا لم تعد موجودة والعراق لم يعد موجودا، ولن يعود كلاهما أبدا، ولبنان يفقد الترابط وليبيا ذهبت منذ مدة»
هل قواعد النظام الدولي أصبحت كافية؟
هكذا! «لم تعد المؤسسات كافية» ولا «قواعد النظام الدولي» أيضا، أما لماذا؟
- الأسباب والظروف والغايات المنشئة لها ولأجلها قد تغيرت بتقادم الزمن عليها، وأمست كأية منظومة قانونية بحاجة إلى تعديل وتنقيح وتفكيك وإعادة تركيب. فقد مرت مائة عام على نشأة العصبة وهيئة الأمم، أولى بواكير النظام الدولي.
- البشرية مرت في عدة أطوار من التغيرات الجذرية حضارية، في حين لم تتغير القواعد المنشئة، ولا البنى المؤسسية، ولا آليات العمل، ولا السياسات المهيمنة، ولا الغايات، ولا المرجعيات، ولا القيم الحاكمة، ولا التقسيمات الظالمة.
- فاعلين جدد ظهروا في العالم ومصالح جديدة.
- ما بلي من القواعد والمرجعيات لم تتضمن في الأصل معالجة ما استجد من حركات اجتماعية وشعبية ومطالب حقوقية وأخلاقية وإنسانية شاملة.
- النظام الدولي، كأحد السلع الرأسمالية، ولد وظل، هو ومنتجاته، موضع احتكار، وأداة سيطرة وتحكم، لقادة السوق.
فإذا كانت الرأسمالية ذاتها قد استنزفت؛ فهل يعقل أن يبقى الحديث عن إصلاحات وابتكارات لذات المنظومة أو في محيطها!!؟
العقائد والأديان لا يمكن أن تبقى مجرد سلع، تُزدَرى في أسواق الفلسفات الوضعية.
المصادر
د. أكرم حجازي، واقع النظام الدولي: قراءة في الميديا الغربية، منتدى المفكرين المسلمين ومركز العصر للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية 2016.
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء