تزدهر هاته الأيام أحاديث المصالحة الوطنية وضرورة تجاوز الماضي والحديث عن المستقبل. يتسابق الساسة والمحللين في طرح أفكار ورؤى والدفع في إتجاهات المصالحة الوطنية. لكن ما نلحظه أن رياضة إغتصاب المصطلحات وإختطاف المعنى أصبحت رياضة "وطنية" لدى جزء كبير من نخبتنا "الوطنية". فبعد إغتصاب معنى الوفاق والتوافق الوطني الذي إنتهى إلى توافق فئوي حزبي على مقدرات الوطن يأتي اليوم الدور على المصالحة والعدالة الإنتقالية التي يريدونها مصالحة على مقاس الجلاد لا تؤذي "مشاعره" ولا "ثروته" ولا "مصالحه" على مصالحة وطنية على مقاس الوطن وعدالة إنتقائية لا تغوص في محاكمة ميكانيزمات عمل السيستام ولا الأساطير المؤسسة لدولته.
يحاول البعض إختزال المصالحة في جبر ضرر مجموعة من المناضلين الذين تضرروا اضرار بليغة جراء سنوات من التعذيب والسجن والملاحقة وبالتالي حصرها في مجموعة محدودة من المناضلين السياسيين والحقوقيين وعائلاتهم كما يحاول عرابو هذه المصالحة من جهة أخرى اختزالها في تعويضات مالية وإجراءات جبائية لا تسائل الخيارات الكبرى لدولة صيغة حكم 56 ونظامها.
ما فائدة مصالحة تسجن جلاد أو تعفي قيادي أمني رفيع والحال أن العقيدة الأمنية لا تتغير؟
من المعلوم أن المؤسسة الأمنية ليست مجموع أشخاص أو أعوان تشتغل لصالح أمن النظام فقط بل هي مؤسسة تستبطن عقيدة معينة تجاه العديد من القضايا التي تهم الوطن. لا معنى تغيير في الأشخاص وإعادة الهيكلة تحت مسميات جديدة (أمن الدولة إلى جهاز إستعلامات وطني) إذا لم يتم مراجعة العقيدة الأمنية للمؤسسة العسكرية والتي تعرف مجموعة من المصطلحات مثل الإرهابي والمجرم والمواطن وعدو الدولة وعدو النظام وإبن الدولة والمجتمع والنظام. هل هناك تماهي بين إبن الدولة وإبن النظام وإبن المجتمع؟ أم أن "الحاكم" هو إبن نظام فقط وهو العصا التي يرعى بها النظام المجتمع؟ ما الهدف من المؤسسة السجنية؟ هل هي مؤسسة لتطويع المواطن وكسر ارادته أم هي مؤسسة لإعادة التأهيل؟ هل السجن مطلوب لذاته أو وسيلة لإدراك غايات ما؟ هل هي مصانع "حقرة" أم مصانع تأهيل؟
قبل الحديث عن مصالحة وطنية يجب الحسم في الأسئلة التي تعرف العقيدة الأمنية وعلى ضوئها وجب مراجعة مناهج التدريب الخاصة بالوحدات الأمنية والسجنية والخاصة بأكاديمية الشرطية والعسكرية لتتلائم مع العقيدة الجديدة فهناك تصنع الأجيال الجديدة للامن سواء أريد له أن يكون جمهوري أو أمن نظام.
ما الفائدة من مقايضة المحاسبة ببعض الأموال من رجال الأعمال الفاسدين والحال أن هؤلاء الحاكمون الفعليون لتونس يسرحون ويمرحون قيادات في احزاب ووزراء ورؤساء لجان في مجلس نواب الشعب؟
أحد المسائل الحيوية التي يجب الحذر منها هو تداخل المالي/الاقتصادي بالسياسي في تونس. لا نريد لتونس أن تتحول إلى ديمقراطية رجال أعمال على المنوال الروسي. دولة تحكم من قبل أولغارشية تسعى لتأبيد سيطرتها على الثروة عبر التحكم في السلطة دون مساءلة حقيقية عن مصادر ثروتها ولا إرجاع لما نهب.
إن المصالحة يجب أن تشمل أيضاً محاسبة المسؤولين السياسيين الذين كانوا وراء القرار السياسي والارادة.
فإذا كان الأمني والبيروقراطي والتكنوقراطي أداة تنفيذ فإن السياسي هو الذي نظر وخطط وأعطى الأوامر وغطى على الجرائم. يحاول البعض اقناعنا بإن المحاسبة السياسية قد فات أوانها وأن أي حديث عنها أصبح مستهلكاً. صحيح أن النظام لم يسقط وأعاد تجديد خلاياه وعاد بأكثر قوة وفتوة ولكن الأمر الواقع لا يمكن أن يقفز على حقائق الأشياء ويصادر المطلوب بالضرورة إنجازه للمرور إلى جمهورية ثانية حقيقية.
كيف يمكن الحديث عن مصالحة تستثني فئة من المجتمع وتشيطن افرادها؟
المصالحة الوطنية يجب أن تكون بين جميع فئات المجتمع ولا تكون على حساب فئة من فئاته. لا يمكن أن نبني مصالحة والحال أن هناك بيننا من يحاكم لمظهره ومعتقده هو متهم إلى أن يثبت براءته.
لا يمكن لعاقل في هذا البلد إلا أن يدفع نحو مصالحة وطنية لكن المصالحة يجب أن تكون بالفعل مصالحة حقيقية تلمس جوهر القضايا لا تسويات بين الكبار للملمة الملفات الثقيلة ومن بعدها المرور لتثبيت نظام لا يختلف عن سابقه إلا في القشور.
المصالحة الوطنية تهم كامل أفراد المجتمع وعلى كل منا أن يعني أن نظام دولة 56 لم يضرب فقط خصومه السياسيين ومعارضيه بل كان يحسب الأنفاس على كامل المجتمع وقد أخذ المجتمع لعقود رهينة لدى الدولة ونظامها وسرق نهب مقدرات المجتمع. المصالحة الوطنية هي ملك عمومي لا ملك خاص للبعض يقامر به كما يريد ويساوم به بعد أن ضمن صمت جماعته.
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء