فتح عينيه يلعن أشعة الشمس التي داعبت أجفانه وباغتته وهو يتلذذ دفء فراشه ،أفاق متثاقل الخطى يتحسس طريقه بصعوبة ،إستوى هامة واقفة وحملق عينيه في المرآة يحدق في وجهه مستريبا في أمره .... كم تغير وكم صار بشعا ،إبتسم في سخرية ، تذكر كيف كان وجهه الطوبل وذقنه الجميل يستهوي البنات أيام الجامعة تذكره وقد أضحى اليوم كتلة تجاعيد مبهمة ،تذكر أيضا عيناه الزرقوان وحاجبيه المعقودين اللذان هامت بهما حبيباته السابقات ..هو بالكاد يعرف نفسه، حتى شعره المموج الكثيف صار قاب قوسين أو أدنى من شعيرات تتدلى من هنا وهناك ...عامان مرا مذ كان طالبا بالكلية يترنح بين الجامعة والأصحاب والأقران والمقاهي، عامان مرا مذ كان مبتهجا متفائلا مقبلا على الحياة بنهم يفترش الأحلام ويعانق خاصرة الامل
كان قصيّ ذو الاثنين وعشرين ربيعا شابا يافعا ضحوكا خلوقا مبتهج الأسارير، يعشق الفن والشعر والأدب والمسرح والسينما ،يمتلك خطابة وحضورا مميزين، له لكّنة نرجسية في تعابيره وأحاديثه ،يخلط بين الجدّ والهزل والمداعبة حينا والمحاججة أحيانا..... كم كان مدمنا للسهر والتدوينات والكتابة، كم كان حبه لوطنه عظيما حتى انه كان في طليعة من ساندو التحركات وأماطو اللثام عن عورات ومساوئ النظام في باحات الجامعة ،كان يعشق كل شبر من هاته الأرض ويحفظ تراتيل الثورة وأهازيجها وكان مؤمنا بالحلول الرديكالية يتجاسر على توصيف العمالة والفساد ومتابعا لكل تقلبات البلاد
كان علما يملك من الخلاّن والأقران ما لا يحصى ولا يعد تراه أينما مرّ يلقي السلام ويشاكس علان ويربّت على كتف فولان الكل في حييّه يعرف سيرته وككل الشباب في عمره تغمره طفرة حماسة ونشوة أمل، يحب أن يجرب كل شيئ ويكتشف رواسب العالم وتلابيبه فهو من رواد البار وعشاق البهجة الخضراء كما يسميها كثيرون يضاجعها حتى يسكرو يثمل ومع ذلك لا تغادره الإبتسامة وحسن السلوك حينما يعترض سبيله أي واحد من معارفه وجيرانه، لم يتشكى يوما شخص منه ولا من جيرته ومع ذلك داهم الأمن منزله في ليلة خميس مقفرة وبعثرو كل ما تحتويه غرفته الصغيرة وإقتادوه مكبّلا ولم يتركو له فرصة حتى ليسأل لماذا ....حتى أنّه يومها لم يسكر بل كان يراجع دروسه تحضيرا لإمتحانات قريبة إقتادوه ولا أحد من الحي يفهم السبب ولا الخطب وكل من بادر بالسؤال إنهال عليه أعوان الأمن بالشتم والسب وتهديد بالضرب والوعيد بالتنكيل
ركب سيارة الأمن غصبا وتحت وطآة الهرسلة والضرب ثم اُقتيد إلى مركز الإيقاف وهناك تبين أنه متهم بتعاطي مادة القنب الهندي ”متكيف جونته“ وعليه وعملا بالفصل 52 وبعد التحليل فقد تقرر حبس قصيّ عام مع خطية مالية.... .هكذا هي بإختصار نظرة القاضي لشاب في العقد آلعشرين من عمره طالب علم ومشروع مثقف وساعد من سواعد هذه البلاد، فقط لأنه دخّن سيجارة لم يضر بها أي مكون من مكونات هاته الدولة ولم يسئ بها الي أي شخص أو يعتدى بها على حرية غيره ...
فقط لهذا يقبع سنة في زنزانة تجمعه بالقاتل والسارق والتكفيري والمجرم والمغتصب ، سنة مرت عليه كانها مائة عام ،سنة كان في كل يوم يضرب ويجلد ويعذّب سواء كان في زنزانته ،وهو الفتى الأنظف سيرة وسلوكا ومظهرا فالكل يتطاول عليه وينتهك أبسط خصوصياته، أو كان ذلك حينما يشتكي لحراس الزنزانة الذين يركلونه ويسبونه ويصفونه بأتعس النعوت وحينما يتوعد بأن يشتكي يضحكون قائلين ”إنّها التعليمات يا سي الشباب ” ....في ليلة وضحاها إنقلبت حياته كدرا وصارمجرما وهو الأشرف في فكره وفعله بين أقرانه ،صار محكوما مقهورا وهو المستبسل في الدفاع هن حرمة الطلبة وحقوقهم في الجامعة وحتى خارج أسوارها
اليوم وهو ينظر الى نفسه في المرآة لم يعد يرى غير تلك الذكريات لعام ليلته بألف عام ونهاره كوابيس وجرعات ألم مستديم ،لم يعد يحصي الأيام ولا يعرف من الوقت غير الليل والنهار، يطالع الشارع من غرفته ولا يقوى على النظر في أعين الجيران أو حتى إستكمال حياته التي دمّرها قاض ظالم وقانون جائر ذات يوم ...هو حتى قد نسي شغف الحياة وعشقه للفن والسينما والوطن والحلم وصار يقبع في ركن غرفته يعاقر الخمرة ويكتفي بالسكات والسبات في وطن يموت فيه الشباب ليستكرش شيوخ الخراب
الكاتب : ولد الغرسلي
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء