" العدمية حركة تاريخية، وليست رأيا أو نزعة لهذا الشخص أو ذاك (...) العدمية ليست ظاهرة تاريخية من بين الظواهر الأخرى، أو تيارا روحيا كالمسيحية أو الإنسية أو الأنوار."
ـ مارتن هايدغر ـ
" أتوسل إليكم أيها الإخوة أن تحتفظوا للأرض بإخلاصكم، فلا تصدقوا من يمنونكم بآمال تتعالى فوقها، إنهم يعللونكم بالمحال فيدسون لكم السم، سواء أجهلوا أم عرفوا ما يعملون، أولئك هم المزدرون للحياة، لقد رعى السم أحشاءهم فهم يحتضرون، لقد تعبت الأرض منهم فليقلعوا عنها."
ـ نيتشه ـ
عندما أعلن نيتشه موت الإله، لم يكن الرجل يقصد الإله أولا بوصفه الخير المطلق le souverain bien، كما لم يكن يعني الإله كمحرك لا يتحرك، لا ولا دَلَّ معناه على الإله كخالق للكون، أو الإله كجوهر أو كَموناد monade، كما لم يعني قوله الإله بوصفه ضامن الوجود، أو الإله كفكرة مطلقة... بقدر ما أن فيلسوف المطرقة قد أعلن موت الإله لغرض فلسفي محض بمعزل عن كل حكم قيمة سواء باسم الدين أو باسم الأخلاق، إذ يتجلى هذا الغرض بالتدقيق في التمهيد للتأسيس لفكرة الإنسان الأعلى le sur-homme، وعليه فقد كان الأمر مدروسا قبليا قبل عرضه على المشتغلين في الشأن الفلسفي، لهذا فلا شك أنه من الضروري ربط فكرة موت الإله بنقد الميتافيزيقا الغربية بداية، ثم العدمية تثنية، فتجنب الخواء تثليثا بغية تعويض الإله بالإنسان الأعلى، أي بغرض التأسيس لعالم جديد بتصور جديد ـ وإن كان الفلاسفة الطبيعيون سباقين له منذ القرن السادس قبل الميلاد إلى حدود فلسفة سقراط ـ
ـ مارتن هايدغر ـ
" أتوسل إليكم أيها الإخوة أن تحتفظوا للأرض بإخلاصكم، فلا تصدقوا من يمنونكم بآمال تتعالى فوقها، إنهم يعللونكم بالمحال فيدسون لكم السم، سواء أجهلوا أم عرفوا ما يعملون، أولئك هم المزدرون للحياة، لقد رعى السم أحشاءهم فهم يحتضرون، لقد تعبت الأرض منهم فليقلعوا عنها."
ـ نيتشه ـ
عندما أعلن نيتشه موت الإله، لم يكن الرجل يقصد الإله أولا بوصفه الخير المطلق le souverain bien، كما لم يكن يعني الإله كمحرك لا يتحرك، لا ولا دَلَّ معناه على الإله كخالق للكون، أو الإله كجوهر أو كَموناد monade، كما لم يعني قوله الإله بوصفه ضامن الوجود، أو الإله كفكرة مطلقة... بقدر ما أن فيلسوف المطرقة قد أعلن موت الإله لغرض فلسفي محض بمعزل عن كل حكم قيمة سواء باسم الدين أو باسم الأخلاق، إذ يتجلى هذا الغرض بالتدقيق في التمهيد للتأسيس لفكرة الإنسان الأعلى le sur-homme، وعليه فقد كان الأمر مدروسا قبليا قبل عرضه على المشتغلين في الشأن الفلسفي، لهذا فلا شك أنه من الضروري ربط فكرة موت الإله بنقد الميتافيزيقا الغربية بداية، ثم العدمية تثنية، فتجنب الخواء تثليثا بغية تعويض الإله بالإنسان الأعلى، أي بغرض التأسيس لعالم جديد بتصور جديد ـ وإن كان الفلاسفة الطبيعيون سباقين له منذ القرن السادس قبل الميلاد إلى حدود فلسفة سقراط ـ
والحال أنه عندما نتأمل بطبيعة الحال ما جاء على لسان زرادشت، لا شك أنه وجب التوقف مليا حول المغزى من ذلك الحوار الذي دار بينه وبين الشيخ القديس، إذ لا بد من الإشارة إلى فعل ودلالة النزول من الأعلى إلى الأسفل، حيث الدعوة هنا إلى ضرورة التخلص من كل ما هو فوقي مفارق، إلى ما هو تحتي ملموس، ومما هو ميتافيزيقي خارج عن الحياة، إلى ما هو حي بالحياة، لهذا آثر زرادشت أن يعيد الأمور إلى نصابها عندما كانت عليه الفلسفة من ذي قبل، أي فلسفة في الأرض وليس في السماء، أي فلسفة حياة ووجود لا فلسفة أفكار وقيم متعالية، أو بالأحرى فلسفة جسد لا فلسفة روح، أما من جانب آخر فلا شك أن الغرض من نزول زرادشت من قمة الجبل إنما من أجل الإعلان على حلول الإنسان الأعلى بدل الإنسان العادي، والواقع أن الفرق بين الإثنين يتجلى في نظرة كل واحد منهما إلى الحياة، الإنسان العادي صنع إلها مفارقا له فأصبح تعيسا به، أما الإنسان الأعلى فقد قتل هذا الإله لصالح الإرادة، الإنسان الأول أصبح ثقيلا بالقيم على عكس الثاني الذي ينشد الإله الراقص أي الإله الخفيف من القيم، وما دام الأمر هكذا، " فإن الإنسان العادي ما هو إلا شيء وجب تخطيه"(2).
إن العدمية التي وصلت إليها أوربا، خاصة إبان القرن التاسع عاشر، والتي تسببت فيها الميتافيزيقا من جهة ثم المسيحية من جهة ثانية أفقدت تلك العلاقة المتبادلة بين الإنسان والحياة، فبات الأول يعيش تحت وطأة عالم آخر مبتعدا عن عالمه الحقيقي، حيث الاحتفال بالحياة وحيث قيم السادة التي تنشد التفوق الخَلاّق، إلى عالم الخضوع والجبن والتسليم بالقدر "بما أن عزل ما فوق الإحساس يُمحي طبعا الإحساس الخالص، ومن هنا يتبدّى لنا الاختلاف بين الإثنين"(3)، لقد عاد فيلسوف المطرقة إلى أصل هاته العدمية فاستنتج أن تاريخ أوربا كلما تخلص من أخلاق العبيد لصالح أخلاق السادة كلما تبدى تفوقه وعظمت إرادته، والعكس بالعكس، أي أن العدمية الأوربية ما تتغذى إلا بأخلاق العبيد الميالة للاستسلام والخضوع، تلك الأخلاق التي ساهمت الميتافيزيقا فيها بشكل كبير، وهكذا وبدل الانخراط في الحياة، انخرطنا في منطق اللعب بالكلمات حيث تناطح الأفكار ليس إلا، أي التأسيس لعالم غير ناجع أبدا، من هنا أعلن نيتشه موت الإله، أي موت كل منبع للعدمية ومنه موت كل ما يمكن أن يقتل الفاعلية في الإنسان.
الحق أن قراءة فكرة موت الإله في فلسفة نيتشه، يجب أن نعلم أنها ليست غاية فكره، بقدر ما أنها وسيلةً أو قُلْ تمهيدا لصنع إنسان جديد، والحال أنه تضافرت جملة من العوامل للتأسيس لهذا الأمر، من بينها هيمنة الداروينية التي إنبنت على فكرة تطور الإنسان، بل تطور كل الموجودات بما فيها الطبيعة، وبما أن الميتافيزيقا لا تنتج إلا التشابه بدل الاختلاف، وبما أن الطبيعة لا تقبل هذا التشابه مطلقا، فإن الإنسان وجب أن يتطور بدوره ليس بيولوجيا فقط وإنما في علاقته بالحياة، وبما أن سبب هذا الجمود مرده على القيم فقد وجب قتل علة هاته القيم، أي وجب الإعلان عن موت الإله كإله مُثقل بالقيم وليس كإله بمفهومه الديني، فلنعد لعمق التاريخ نحاوره كي نفهم الأمر جيدا.
من المعلوم أن نيتشه ليس أول من أعلن فكرة موت الإله، بقدر ما أنها طُرحت قبله مع الشاعر الألماني الكبير هنري هينه Henri Heine، حيث ورد في كتابه : ـ تاريخ الدين والفلسفة ـ ما يلي :" إسمعوا هذا الجرس الصغير، واركعوا، إننا نحمل على عاتقنا تقديسات جمة لإله ميت." والحال أن موت الإله قد ورد في زمن غابر في التلمود، معلنا بذلك التأسيس لإنسان قتل نفسه لصالح شيء آخر، وفي هذا إساءة للإله وإساءة أيضا للإنسان، وعليه فإن التأسيس للإنسان المتفوق ليس يكتمل إلا بالتأسيس لفكرة موت الإله أي موت قيم العبيد.
والحال أن الفلسفة النيتشية قد وجهت سهامها النقدية إلى الميتافيزيقا التي أفرغت الإنسان من محتواه، أي أنها صنعت فيه التشابه والهوية بدل الاختلاف، فابتعد بذلك الإنسان عن إنسانيته، ولا شك أن المسيحية استغلت ضعف الإنسان فأفرزت لنا كائنات متشابهة قتلت الحياة لصالح عالم ماورائي، ومعه انتهت فاعلية الإنسان لصالح جمود الميتافيزيقا، الإنسان الأعلى هو الوحيد القادر على تخطي كل هاته المثبطات، بيد أنه لا يمكن أن يحل قبل أن يمارس لعبته المتخفية ألا وهي الإعلان عن موت العدمية بموت الميتافيزيقا بموت الإله، "من ثمة فإن نيتشه نفسه شرح ميتافيزيقياًّ métaphysiquement، حركية التاريخ الغربي، عندما لخصه في كونه قدوما ونشرا للعدمية ليس إلا."(4) بيد أن الأمر ليس يعني أن نيتشه يريد التأسيس لميتافيزيقا جديدة كما جاء على لسان هايدغر، من خلال أن نقد الميتافيزيقا هو ممارسة ميتافيزيقية أيضا تجعلنا نسقط في فخ إدراك الوجود كموجود، (5). إن الإنسان الأعلى الذي هو من صلب ومن إنتاج فكرة موت الإله عن هو إلا كائن يحيي الإرادة فيه، ويحاول أن يتخلص من ألعاب اللغة لصالح ألعاب الحياة، بعبارة أخرى إنه يريد أن يعيش العيش وليس أن يعيش من أجل عالم ماوراء الحياة، والحق أن هذا الأمر سيتضح لنا بالشكل الكبير عندما سنعود لدلالة مفهوم الإنسان الأعلى في اللغة الألمانية ubermensch der والتي ليست تدل حسب البعض ـ خاصة غير المشتغلين على الفلسفة والفيلولوجيا ـ إلا على الرجولة القائمة على القوة العضلية، بقدر ما تدل على التفكير والتطور وتقديم الأحكام بخصوص الأشياء المحيطة بنا بالنسبة للعارفين بالشأن الفلسفي، وهو ما يجعلنا نجد لها أيضا نفس المعنى في اللغة اللاتينية : mens –mentis، من ثمة فالإنسان الأعلى ليس تعويضا للإله الميت وإنما إحياءً للميت وللمنسي وللمهمش فينا، إنه إحياء للإنسان المحتفل بالحياة، إنه إحياء للإنسان كإنسان.
يحذرنا هايدغر من تأويلات العامة بخصوص فكرة موت الإله، كما يؤكد أن هاته العبارة ليس يجب فهمها في بعدها اللغوي وإنما في بعدها الفلسفي الذي يتطلب إلماما بتاريخ الفلسفة الغربية، كما يتطلب أيضا معرفة ليست بالهينة بخصوص فلسفة نيتشه، وذلك ابتعادا عن كل اتهام بالإلحاد وإن كان هذا أمرا شخصيا،(6) بل إن نيتشه ليس أول فيلسوف قال بموت الإله، إذ كيف سنفسر ما قاله هيجل نفسه في كتيبه "الاعتقاد والمعرفة" ـ وهو من أشد المدافعين عن المسيحية ـ "الإحساس الذي من خلاله تستريح ديانة الحقبة الجديدة، هو الإحساس الذي يعلن أن الإله نفسه قد مات"(7)، والحال أن فيلسوفا كبيرا من طينة باسكال قد قال فيما قال فيه نقلا عن بلوتارك نفس العبارة وإن كانت تحمل أكثر من تأويلle grand pan est mort.
إن فكرة موت الإله إذن لا يجب الحكم عليها قيميا، وإنما يجب أن نفهمها وفق ما أراده نيتشه بخصوص فلسفته، ألا وهو قتل العدمية الإرتكاسية الأوربية، لصالح عدمية خلاقة تعيد الإرادة للإنسان، وتضعه أمام أخطاءه كما مقوماته، فكرة موت الإله إذن هي دعوة إلى تحمل ثقل العالم وهي دعوة مبطنة أيضا للعودة إلى الحياة، عندما قُتل معناها السامي من طرف الثلاثي سقراط أفلاطون ثم أرسطو، من ثمة فإن فلسفة نيتشه هي مرآة لما وصلت إليه أوربا من عدمية، حيث المسيحية أصبحت تسكن كل تصرفات الإنسان، بل إنها أصبحت مبررا لعجزه وخضوعه باسم القدر، "إذا مات الإله كَعِلَّةٍ ماورائية، وكغاية لكل الغايات، وإذا فقد هذا العالم المفارِق المؤسس على الأفكار كل قواه خاصة اليقظة منها، فإن الإنسان لن يعرف ما هو فاعل بنفسه، آنذاك لن يجد شيئا بمقدرته توجيهه"(8)، لقد فطن نيتشه إلى اللعبة، حيث ما إن يتم الإعلان عن موت الإله كضامن للوجود حتى يسقط الإنسان والعالم على حد سواء في عدمية جديدة، لهذا فإن الإنسان الأعلى هو المخلص من كل هذا الأمر، وإن كان سيؤسس بدوره إلى عدمية أخرى، وعليه فإن فكرة " موت الإله تضعنا أمام بداية امتداد عدم جديد"(9).
لا شك أن عالمنا الإسلامي العربي بدوره يعاني اليوم وفي أكثر من أي وقت مضى عدميته في أقصى حضورها، حيث الخضوع التام لكل القوى التي تحيط بنا، والتي وضعتنا في انفصام كبير جدا، بين الانصياع للتقنية من جهة، والانصياع لسوء تفسير الدين من جهة ثانية، ثم إرجاع فشلنا إلى القدر من جهة ثالثة، فالعيش كضيوف في هذا الكون دون المساهمة في تقدمه من جانب رابع، ومما لا شك فيه أن العدمية المكتملة هي العدمية التي تقتل ما تبقى من إرادة الإنسان، فنبتعد من خلالها من عالمنا الذي نعيش فيه بغية التأسيس إلى عالم آخر نتخيل فيه ما نفتقده من عالمنا هذا، بالتالي نكذب على أنفسنا وعلى التاريخ أن عالمنا هذا عالم زائف فان، ربما عاش نيتشه إذن في ظل ما نعيشه نحن اليوم وإن كانت أوربا آنذاك لا زالت تحتفل بنهضتها وأنوارها، بيد أنه لا يختلف اثنان في أن بتنا عبيدا اليوم لخضوعنا وعجزنا وهذه هي العدمية القصوى التي تتحول بعدئذ إلى عدمية مزمنة، فهل من تفكير إذن في إعلان موت الإله كعدمية والتأسيس للإنسان الأعلى سعيا إلى التفوق ومصالحة الحياة بدل هذا الانحطاط...؟
ـــــــــــــــــــــــــــ
1- Nietzsche « ainsi parlait Zarathoustra » ed : LGF 1983, traduit par : Georges Arthur Goldschmidt pp : 19-20
2- Nietzsche op.cité p: 21
3- Heidegger – le mot de Nietzsche « dieu est mort » in : chemins qui ne mènent nulle part, ed : Gallimard p : 253
4- Ibid p : 254
5- Voir par exemple : Heidegger op.cité p : 255
6- Voir par exemple : Heidegger op.cité pp : 257-258-259
7- Ibid
8- Ibid p : 262
9- ibid
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء