أربع قضايا تعصف بالنظام الدولي: أزمات الرأسمالية العالمية


تحدثنا في المقال السابق عن قضية تعصف بكيان النظام الدولي وشرعية وجوده وهي الربيع العربي وما قام به من تعرية للنظام العالمي وكشف زيفه وحقيقته الدموية الأنانية. هذا المقال سيتناول قضية أخرى تهدد كيان النظام العالمي وهيأزمات الرأسمالية العالمية وما جلبته من دمار على الأفراد والمؤسسات والدول.

نظرة حول الرأسمالية ونشأتها

اتخذت الرأسمالية-كنمط حياة ليبرالي-من الحقوق الفردية مطية لترويج فلسفتها؛ وتبعا لذلك فإن كل الموجودات المادية والمعنوية بكافة أشكالهما وتحولاتهما هي بالضرورة سلع قابلة للبيع والشراء في السوق. فالكائنات الحية والجمادات والأديان والتواريخ والحضارات والحقوق والقيم والأخلاق والسلوك والعلاقات والمشاعر والثقافات والفن والجمال والعلوم والفلسفات والقوانين والدساتير وحقوق الإنسان والأمم والشعوب والأفراد والجماعات والأوطان والحروب والسلام والإرهاب والماء والهواء والمنتجات والمحرمات والمباحات: هي مجرد سلع، أو أنها قابلة للتسليع والإخضاع لشروط السوق، حيث مبدأ «الكسب والخسارة». كل هذه السلع تخضع لمبدأ فلسفي رأسمالي صارم من نوع: «دعه يعمل دعه يمر»، وإنْ لم ينفع فإنَّ مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» بالمرصاد لكل مخالف، أو عقبة من أي نوع وعلى أي مستوى.
سبعون عامًا فقط-بِدءً من انتهاء الحرب العالمية الثانية-هو عمر الرأسمالية ما بين نموها وازدهارها وغرقها في أزمات طاحنة، وفي عقر ديار نشأتها. سبعون عامًا مضت وسادة العالم الرأسمالي يبنون دولهم ومجتمعاتهم وثرواتهم وازدهارهم ورفاهيتهم على حساب البشر، حتى أنهم لم يوفروا نهب شعوبهم.

الديون بالأرقام

تقارير كثيرة تغطي عدة جوانب من أزمات الرأسمالية، لاسيما أزمات الديون والتهرب الضريبي والتفاوت الهائل في الدخل وحجم الثروات الخاصة مقارنة بإجمالي الناتج العالمي. أرقام فقط تصيب القارئ بالذهول بينما السياسات لا هم لها إلا مزيد من الإفقار للدول والشعوب على السواء. فلنتابع ونتأمل.
  • دراسة «معهد ماكينزي»

في أحدث دراساته (فبراير 2015) كشف المعهد عن:

(1) حجم المديونية العالمية:

وقد بلغت 199 تريليون$، بنسبة زيادة قدرت بـ 57 تريليون$. أو ارتفاع من 33 تريليون$ إلى 58 تريليون$.

(2) نسبة نمو المديونية في الفترة ما بين نهاية سنتي 2007 – 2014.

وفي مسح أجراه المعهد على 47 دولة تبين أن نسبة الديون العامة إلى إجمالي الناتج العالمي ارتفعت من 269% إلى 286%. وبحسب الدراسة فقد ارتفعت ديون الأسر في العالم من 33 تريليون$ مطلع سنة 2008 إلى 42 تريليون$ مع نهاية العام 2014. وتبين أن 74% من هذه الديون في 80 دولة شملتها الدراسة كانت ديون رهون عقارية بشكل مباشر أو غير مباشر. أما ديون الشركات فارتفعت في نفس الفترة من 38 تريليون$ إلى 56 تريليون$، مثلها ديون المؤسسات المالية التي ارتفعت من 37 – 45 تريليون$.
  • بيانات موقع «visualcapitalist»

اعتمادًا على بيانات لصندوق النقد الدولي، وفي 6/8/2015 قدم Jeff Desjardins، مؤسس ومدير موقع «visualcapitalist» المتخصص في الشأن الاقتصادي العالمي، تمثيلات بيانية جذابة تختصر مشكلة الديون العالمية أو حجم اقتصاد الدول في رسم بياني واحد. وبالنظر إلى حجم الاقتصاد، تبدو المشكلة واقعة في صلب النظام الرأسمالي العالمي. إذ أن 75% من الديون العالمية تتحملها الولايات المتحدة واليابان وأوروبا. فاقتصاد الولايات المتحدة يشكل 23.3% من الاقتصاد العالمي لكنها تدين له بـ 29.1٪، واليابان 18.6% بينما تدين بـ بنحو 20%. وتتحمل 7 دول من أصل 15 دولة أوروبية 26% من المديونية العالمية
United Nations debt

الأثرياء والتهرب الضريبي

لا يجادلن أحد في أن أعظم كوارث الرأسمالية تتعلق بما أفرزته من شرائح لا يمكن سوسيولوجيا أن تصنف في مدى التفاوت في الدخل. فهي أشد وحشية من الوحوش الضارية ذاتها. فلا مبدأ لها ولا أخلاق ولا قانون يردعها ولا تعنيها أية مسؤولية في الأرض من قريب أو من بعيد. والمشكلة هنا لا تتعلق فقط بكافة أسباب الاحتيال الساعية بلا ضمير إلى جمع الثروة وتكديسها بل في صناعة ملاذات آمنة للتهرب من الاستحقاقات الضريبية تعرف باسم «Offshore». وهي مناطق إما أنها تقع خارج القوانين السيادية أو أن منشئوها هم أنفسهم من وضع قوانينها بما يتلاءم ومصالحهم وأهدافهم.
وهي في الواقع في تحالف بغيض مع السلطات السياسية وكذا البنوك والمؤسسات المالية، هي باختصار عصابة دولية لا هدف لها إلا الاستحواذ على قوت الناس وأرزاقهم كما تستحوذ على الاقتصاد العالمي وحقوق الدول وممتلكاتها وثروات الأمم والشعوب. لنتتبع أحوالهم قليلا عبر سلسلة من التقارير ذات الصلة
  • تقرير «مصرف كريدي سويس» 

وفي 15/10/2014 أصدر «مصرف كريدي سويس» تقريرًا ذا صلة أشار فيه إلى أن إجمالي الثروة العالمية تضاعف من 117 تريليون$ سنة 2000 إلى 263 تريليون $. وقال بأن 1% من سكان الأرض يمتلكون أكثر من 48% من الثروة العالمية، في حين أن النصف السفلي من السكان يمتلك أقل من 1% من الثروة. وعن توزيع الثروة بين الأغنياء فقد أوضح التقرير بأن الأمريكيين الشماليين يحتلون المرتبة الأولى بنسبة 34.7%، ثم الأوروبيون بنسبة 32.4%، ثم الآسيويون ومواطنو الباسيفيك في المرتبة الثالثة 18.9%، فيما يحتل الصينيون المرتبة الرابعة والأخيرة بنسبة 8.1%. وكغيره من الدراسات والتقارير جدد تقرير المصرف التأكيد على أن الانتعاش الاقتصادي الذي أعقب الأزمة المالية سنة 2008 صب في صالح الأثرياء.
 سوء توزيع الثروة
  • تقرير «أوكسفام»

من جهتها شنت وكالة الإغاثة الدولية «أوكسفام» حملات ضارية على أثرياء العالم ورموز الـ «Offshore» مطالبة بنظام ضريبي عالمي عادل. وعشية انعقاد مؤتمر «دافوس» الاقتصادي كشفت المديرة التنفيذية لـ «أوكسفام، كيفن روسيل، في 19/1/2014، وعبر تقرير أعدته للمؤتمر باسم الوكالة أن 85 ثريًا في العالم يمتلكون ما نسبته 48% من الثروة العالمية،وأن ثروة هؤلاء ستبلغ 50% بحلول العام 2016وهي نسبة تفوق بـ 65 ضعف ثروة نصف سكان العالم الأقل فقرًا. وهي كافية للقضاء على الفقر في العالم بما يعادل أربعة أضعاف. وقالت روسيل:
«من المثير للذهول أنه في القرن الحادي والعشرين لا يملك نصف سكان العالم (3.5 مليار شخص) ما تملكه مجموعة من الناس لا يتعدى عددها ركاب حافلة من طابقين… فضلا عن أن الملاذات الضريبية الآمنة تتسبب سنويًا بخسارة أكثر من 156 مليار$ من الإيرادات الضريبية».

الدول العربية ونصيبها من الثروات

  • شبكة العدالة الضريبية

حسب دراسة شبكة العدالة الضريبية المختصة بدراسة التهرب الضريبي وملاحقة رموزه وملاذاته في العالم فإن هناك نحو 7.6 تريليون$ خبأها الأثرياء في الملاذات الضريبية الآمنة، ومنها نحو 804 مليار$ تخص فقط دولتين عربيتين هما الكويت والسعودية.
Prince-Alwaleed-bin-Talal-gold-Plane-488x240
  • مجموعة بوسطن للاستشارات

وفي مسح للثروات الخاصة في العالم ونموها قامت المجموعة بعملية تشبه المسح الشامل للثروات الخاصة في العالم، ويتضمن المسح بيانات مفصلة ومذهلة عن عدد المليونيرات في الدول وكذا الأسر المليونيرة، بما فيها خمس دول خليجية هي: السعودية وقطر والكويت والبحرين والإمارات. في تصنيف للأسر الثرية في كل الدول جاءت قطر في المرتبة الثانية بعدد 47 ألف مليونير وبنسبة 14.3% من عدد السكان. والكويت في المركز الثالث بـ 83 ألف مليونير، وبنسبة كثافة سكانية بلغت 11.8%. وفي المركز السادس جاءت الإمارات العربية المتحدة بواقع 57 ألف مليونير، وبنسبة كثافة 5%. وفي المركز العاشر سجلت البحرين 8 آلاف مليونير وبنسبة كثافة سكانية بلغت 3.2%.

السعودية نموذج:

فقد كشف المسح أن: 112ألف سعودي يمتلك كل منهم-كثروات خاصة-مليون دولار أو أكثر، وأن هؤلاء يديرون حالياً من الثروة في السعودية ما يقارب 78% مقارنة بـ 76% سنة 2011. بينما تبلغ نسبة الفقر في السعودية 17% من إجمالي عدد السكان المقدر بـ 19 مليونا و838 ألف شخص.

ختاما:

هذه هي خلاصة الليبرالية وشقيقتها الرأسمالية. ولو تتبعنا الأرقام المتعلقة بالفساد والتهرب الضريبي وانعدام المسؤولية لتبين لنا أن البشرية في ظل النظام الرأسمالي العالمي تواجه تحالفًا وحشيًا ضاريًا بين السلطة والمال. فما الذي يمكن أن يخلفه هذا النظام لاسيما وأن التفاوت في الدخل دق جرس الإنذار من أن الشهور القادمة، وليس السنين، ربما تنذر بتوترات اجتماعية طاحنة في شتى أنحاء العالم؟
يتبع الجزء الأخير فيما يخص قضايا النظام العالمي… سيتناول تآكل كل من النظام العالمي والدول العربية

المصادر:

د. أكرم حجازي، واقع  النظام الدولي: قراءة في الميديا الغربية، منتدى المفكرين المسلمين ومركز العصر للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية 2016.

شكرا لتعليقك